بعض الكلمات عادةً ما يكون لها وقع حسن عندما توصف أو تقال أمام أحدهم أو في حضرة بعضهم عن أناسٍ آخرين، بل وترى المستمع إليها من فيض الاستساغة يكاد يبلغ حالة النشوى السماعية وكأنه يُصغى لأنشودةٍ محبّبة إليه أو أغنيةٍ لا يمل من الغفو على أنغامها، ولكن الملفت في أمر الكلمات نفسها هو قدرتها على نقل مزاج الفرد ذاته من حالةٍ إلى أخرى بالضد منها، حيث أن نفس الشخص الذي بلغ النشوة عندما سمعها وهي تستهدف غيره، تضايق منها بل وراح يعبِّر عن استيائه عند سماع الكلمة نفسها بكونها هذه المرة تصف معارفه أو تستهدف فئة ما هو يرى نفسه معني بسمعتها.

والمفردة التي تتضمن ثنائية القبح والجمال لمجرد أن يتغير وجهتها والمكان والغرض من استخدامها والمستهدف بها، هي كلمة المستوطِن التي تشير القواميس صراحةً وبكل حيادية إلى أن معناها ذلك الذي أقام بالمكان، سكَنه، ألِفه واتَّخذه وطَناً، بينما في سورية فالكلمة تتضمن معنيي الدميم والفاتن في آنٍ واحد، حيث أن شريحة كبيرة من السوريين ينطربون لمعناها السلبي عندما يكون الحديث عن ذلك الكائن الذي جُلب من بقاع المعمورة إلى إسرائيل من أجل الاستحواذ على ممتلكات الفلسطينيين، بينما يعبرون عن امتعاضهم على وجه السرعة ويتضايقون من ذكر تلك الكلمة التي يصف بها أهالي عفرين الكثير ممن جُلبوا إليها من بعض المناطق السورية المتفرقة وخاصة من غوطة دمشق بعد 2018، وذلك باعتبار أن الحقيقة كما هي على أرض الواقع ليست محط ترحيب لدى فئة كبيرة من الناس الذين يُفضلون تصوراتهم الدائرة في فلك ما يتمنونه.

وإذا كانت ممارسات المستوطنين الإسرائيليين بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية حسب الصحفية والمحللة الأميركية الإسرائلية Mairav Zonszein تشمل "التعدِّي على الممتلكات، إغلاق الطرق المؤدية إلى الأرض ومصادر المياه، إحراق السيارات أو المنازل أو الممتلكات الأخرى، وسرقة المواشي، وإحراق أشجار الزيتون أو قطعها، إضافة إلى مختلف أشكال المضايقات الجسدية واللفظية والتخويف، كاستعمال الرصاص الحيّ لقتل وجرح فلسطينيين"، فإن شهادات أهالي منطقة عفرين تشير من خلال عشرات التقارير الحقوقية إلى أن طائفة كبيرة من الذين جُلبوا من مناطق مختلفة من سورية إلى عفرين لم يكونوا أرحم من المستوطنين الإسرائيليين مع الفلسطينيين، بل يؤكدون بأن وضع الفلسطينيين أفضل من وضع أهالي عفرين، لأن الفلسطينيين حسب أقوالهم لديهم قوات مسلحة تدافع عنهم عند اللزوم وهذا الأمر غير متوفر لدى أهالي عفرين باعتبار أن كل حملة السلاح هم من المجلوبين، ويضيفون بأن الفلسطينيين على الأقل حظوا ويحظون بالتغطيات الإعلامية الكبرى من قبل عشرات المحطات التلفزيونية العربية والإقليمية والدولية التي تنقل معاناتهم للعالم، بينما أهالي عفرين حُرموا حتى من حق إيصال صوتهم إلى العالم الخارجي.

عموماً لا يخفى على السوري المتابع لما يجري في البلد منذ سنوات ذلك الاتفاق الثلاثي بين النظام السوري والدول الضامنة لتخفيف الضغط على النظام خاصةً في ريف دمشق، حيث نص الاتفاق على انسحاب الفصائل المسلحة من مناطق سيطرتهم قرب دمشق وإرسالهم إلى الشمال السوري، من دون أن تبدي تلك الفصائل اعتراضاً على خطة إبعادهم عن العاصمة من أجل إنعاش النظام الذي ادّعوا بأنهم يعملون على إسقاطه! والغريب في أمر الكثير من هؤلاء الفارين من بطش قوات النظام هو ممارساتهم اليومية القميئة بحق أهالي منطقة عفرين، حيث أن التصرفات الهمجية ضد السكان المحليين كالخطف والاعتقالات العشوائية والاغتصاب توجت بوضع الأيدي على الممتلكات من المحلات التجارية والمعامل والشقق السكنية إضافةً إلى مناصفة أرزاق الناس.

إقرأ أيضاً: زاهدي وعملية زوال إسرائيل

ولكن كمحاولة لتصحيح الوضع اللاسوي واللاقانوني منذ سنوات، ومن باب إعادة بعض الحقوق لأهالي عفرين الذين يتجرعون الذل والمهانة على أيدي المجلوبين إليها من مناطق متفرقة من سورية، دعت القاضية نيروز حسو عبر دعوة قضائية إلى إخلاء منازل السكان الأصليين وتسليمها إلى أصحابها وإنتقال المجلوبين إلى المخيمات المستحدثة لأجلهم، إلاَّ أن المستولين على ممتلكات الناس بدلاً من الخجل من أنفسهم على ما يرتكبونه بحق الأهالي منذ 2018 خرجوا بمظاهرة يتقدمهم فيها الشيخ أبو خالد العكيدي رئيس مجلس العشائر لريف دمشق، ويطالبون فيها بكل صفاقة كل من القاضية نيروز حسو التي حاولت إنصاف الضحايا وإعادة الحقوق لأصحابها وكذلك الأمر نائب رئيس المجلس المحلي عضو الائتلاف الوطني السوري محمد شيخ رشيد بالخروج من مدينة عفرين وفوقها تهديد القاضية، تصوروا يرعاكم الله تصرفات مجلوبٍ عبر الاتفاق بين النظام وروسيا وتركيا إلى عفرين يطالب أهالي المنطقة بالخروج منها، وذلك ليتسنى له ولمن هم في حكمه استكمال الاستحواذ على بيوت وممتلكات الأهالي والاستمتاع بها على غرار المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين.

والسؤال الذي يخطر ببال أهالي المنطقة إذا كان المُخرج الإسرائيلي شيمون دوتان استطاع من خلال فيلمه "المستوطنون" تفكيك عقلية المستوطن، ومعرفة طريقة تفكيره، وتعامله الجلف، وعدوانيته مع الأرض الغريبة التي يُقيم فوقها، كما أن ذلك الفيلم قام بتسفيه حجج المستوطنين في حقهم السماوي للإقامة على أرض الآخرين، فهل يا ترى سيخرج إلينا في قادم الأيام سياسي أو مثقف سوري كبير من طائفة المجلوبين ويُعري حجج من تم سوقهم من المناطق السورية المختلفة إلى عفرين ممن تم إفهامهم قبيل الجلب بأن عفرين أُفرغت من أهلها كرمى أن تستوطنوا فيها وتستمتعوا بخيراتها كالمستوطنين الإسرائيليين المستمتعين بأملاك الفلسطينيين بعد جلبهم من دول العالم؟ أم ليس من السهل أن تنتج تلك البيئة المشبعة بثقافة الغزو أناساً يمتلكون جرأة المُخرج اليهودي شيمون دوتان؟

إقرأ أيضاً: الاستعراض الإيراني الناجح

على كل حال صحيحٌ بأن المستولين على ممتلكات الناس بالإكراه لا يكفون في الليل والنهار عن تلاوة الآيات القرآنية وسرد الأحاديث النبوية وإيراد قصص الصالحين في المجالس دون التقيد بأي شيء مما يترنمون به، وبما أنهم يتجاهلون عن عمد قول الرسول: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" لذا فبدلاً من الأحاديث والقرآن فحبذا لو يرتقوا إلى منزلة كبير اللصوص في العهد العباسي "أدهم بن عسقلة" الذي ترك وصيّةً لأتباعه من اللصوص والحرامية قبل وفاته يحضّهم فيها على التمتّع بالأخلاق الحميدة وهم يسرقون، وقد جاء في الوصية: "لا تسرقوا إمرأةً ولا جاراً ولا نبيلاً ولا فقيراً وإذا غُدر بكم فلا تغدروا بهم، وإذا سرقتم بيتاً فاسرقوا نصفه واتركوا النصف الآخر؛ ليعتاش عليه أهله ولا تكونوا مع الأنذال".