إذا تمعنا في صورة المشهد الإسرائيلي الداخلي، فقد نجد نفقاً مظلماً لا بصيص نور فيه، وقد تكون هناك حاجة ماسة لمجتمع إسرائيل إذا كان يطمح للبقاء، في أن يعمل على حفر فتحة في هذا النفق، ومحاولة الخروج لاستنشاق الهواء العالمي بدل الركض والزحف والمشي والانحناء في متاهة أنفاق المؤسسة الأمنية والعسكرية أو متاهات أهل سياسة اليمين المتطرف وقاعدة مؤيدي النصر المطلق الذي لم ينجزه أي قائد في التاريخ الحديث.

المشهد الإسرائيلي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، فمن قبل السابع من تشرين الاول (أكتوبر) في العام 2023، كان الشارع اليهودي يغلي ويتحرك في اتجاهات عدة على خلفية ما سمي حينها الثورة القضائية، والتي كان يهدف من خلالها ائتلاف الـ64 المؤيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى تفريغ الصلاحيات من المحكمة العليا ومنح السلطة التنفيذية حرية التصرف والعمل وسن القوانين العنصرية وضم أراض فلسطينية وسورية وأخرى دون حسيب أو رقيب داخلي في ظل عجز الحليف الاميركي عن كبح الاستيطان في الضفة او إرغام إسرائيل التوجه نحو حل للمسألة الفلسطينية.

خلافات الاسرائيليين حينها جعلت المشاهد والمتابع يرى نقاط الضعف ونقاط الخلاف وتعميق الهوة بين اليمين واليسار او قل بين المتدينين على أنواعهم وبين العلمانيين اي بين مؤيدي ما يسمى بأرض اسرائيل وبين مؤيدي الحل القائم على تقاسم الارض مع للفلسطينيين عملاً بقرار التقسيم منذ العام 1947، مع الاخذ بالحسبان تطور الأوضاع وتغيير الخريطة الجغرافية والديموغرافية لهذه البلاد.

خلافات الإسرائيليين وإعلان فئات كبيرة غالبيتها من العلمانيين الأشكناز نيتها العصيان العسكري في حال جر البلاد لحرب، شجعت اطرافاً معادية لدولة اليهود للتخطيط والعمل على هجوم ربما في الشمال من جهة حزب الله ومليشيات ايران في سوريا او من الجنوب في غزة بيد حماس كل هذا وسط تحذيرات امنية داخلية من قيادات الاستخبارات العسكرية لنتانياهو، من مغبة استمرار هذه الخلافات وضرورة التوصل لحل وحدوي بين الأطراف.

في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) نفذت حماس خطة عسكرية دقيقة وشاملة على امتداد حدود قطاع غزة مع الدولة العبرية وقد انبهرت حماس بنفسها مثل غيرها بضخامة الانجاز الذي حصدته مع ان عناصرها قاموا بمجازر لا يقبلها عقل إنساني ولا إسلامي.

حماس قتلت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) نحو 1200 إسرائيلي بين مدني وعسكري واسرت اكثر من 220 بين مدني وعسكري، وهذا لم يحدث في تاريخ حروب اسرائيل كلها منذ نشأتها في العام 1948 وحتى يوم السادس من تشرين الأول (أكتوبر) في العام 2023.

بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) دخل المجتمع الإسرائيلي في صدمة كيانية ولم يخرج منها حتى الساعة، حكومة الحرب التي دخلها حزب المعسكر الرسمي بقيادة بيني غانتس صالت وجالت في غزة ونفذت مجازر مروعة بحجة ملاحقة حماس فوق وتحت الارض حيث بلغ عدد الضحايا في غزة نحو أربعين ألفاً بينهم أطفال ونساء وشيوخ إلى جانب الاف قليلة من عناصر حماس ومقاتليها.

المجتمع الإسرائيلي وعلى مدى ستة اشهر متتالية كان يدعم كل قرارات الحكومة وسير الحرب ويتحدث عن إنجازات إلا ان بقاء الاسرى لدى حماس وعدم استطاعة الجيش او الحكومة استعادتهم لا بالحرب ولا بالمفاوضات جعلت الشارع يعود للانقسام بين مؤيد لاستمرار الحرب حتى النصر المطلق, وهم من مؤيدي اليمين من القاعدة الأساسية التي تشمل المتدينين على اشكالهم ومجموعة لا بأس بها من المحافظين وغالبيتهم العظمى من اليهود العرب والجزء الاكبر مغاربة، اما الجانب الاخر العلماني الأشكنازي فبدأ يعود إلى ساحات تل ابيب للتظاهر ليس فقط لاستعادة الاسرى والمختطفين انما لتغيير الحكومة وتبكير الانتخابات والتخلص من حكم الرجل الواحد والذي بدأ المجتمع يلحظ انه يعاني من الوهن والمرض والتعب النفسي حتى ان هناك من يقول انه يعاني من متلازمة لويس الرابع عشر الذي كان يؤمن ويقول أنا الدولة والدولة أنا.

واذا حاولنا تتبع تصرفات وقرارات نتانياهو خلال اشهر القتال فهي نابعة من ارادته البقاء على رأس السلطة بكل ثمن حتى بتعيين ايتمار بن غفير الذي لم يخدم في الجيش وزيرا للدفاع بدلا من يوأف غالانت الذي بات يعارض طريق نتانياهو ويقال انه يخطط للإطاحة به مع خمسة اعضاء من حزب الليكود خلال الفترة القادمة وبالتنسيق مع اقطاب المعارضة.

الداخل الإسرائيلي بات يرى بوضوح ان حكومته الحالية تسير به في انفاق مظلمة لا نور في اخرها ولم يكن في أولها ولا في وسطها.

في خضم ما يشهده الداخل الإسرائيلي الذي لا يرى العالم ومنشغل بنفسه ويعتقد انه مركز الكون ونواة العالم، فان المجتمع الدولي بدأ يعد العدة وبشكل حقيقي وجدي وواضح لليوم الذي سيلي الحرب.

بقيادة الولايات المتحدة بدأت الدول العربية والأوروبية وحتى الصين وروسيا برسم ملامح المرحلة القادمة في فرض حل الدولتين والذهاب إلى افق مشرق والخروج من انفاق غزة ومصر وانفاق اسرائيل المظلمة.

حكومة اسرائيل تسمع ولا تصغي وتعرف ولا تعترف ويعود رئيسها المدعوم بال 64 عضو كنيست ليتحدث عن رفض حل الدولتين ورفض انهاء الحرب والاستمرار حتى النصر المطلق حسب تعبيره والذي ورد عن لسان قادة كثر من ثلاثينيات القرن الماضي والأمثلة كثيرة جدا.

يبدو ان اسرائيل المنقسمة على ذاتها والتي فقدت قوة الردع التي كانت تتباهى بها منذ قيامها، غير قادرة على الانتصار، لا في معركة رفح ولا في حرب غزة ولا في التغلب على الانقسام الداخلي والعودة للوحدة اليهودية التي ميزت دولتهم منذ قيامها، اذ تكتلوا عند الحرب ووجود عدو مشترك، واللافت ان "البعبع" الذي صنعه نتانياهو على شاكلة ايران لم يعد بيستطيع ان يجمع الإسرائيلي الأشكنازي العلماني الذي جاء لبناء دولة اليهود مع اليهودي المتدين السفاردي او المتزمت الحريدي من بولندا او المانيا.

إسرائيل بحاجة إلى انتفاضة داخلية وتغيير جذري في تركيبة قيادة الجيش والامن والسياسة بحيث تستطيع التفكير خارج صندوق ارض الميعاد، وحفر فتحة للأعلى من اجل مشاهدة ما يجري في الخارج لدى الجار من الشرق او الغرب او لدى الجيران في الخليج.

إسرائيل في نفق هي صنعته بنفسها وبيديها وباموالها وسياستها، ولن تأكل إلا ما طبخت فإما البقاء في نفق الظلام والتعنت والرفض حتى الضياع وإما فتح شباك او باب للخروج قبل فوات الاوان وضياع الفرص المطروحة على الطاولة اهمها الاتفاق الاميركي السعودي.