كان عم "عشرى" كنَّاسًا لِحَيِّنا سنين كُثُرًا حتى بلغ التقاعد، وكان الرجل مثلًا وإمامًا للعامل المُجِدِّ المجتهد، المحتمل لمكاره المهنة ومكاره الناس، فالرجل كان يأتينا في بُكرة كل يوم إذا انصدع نور الفجر، وكانت داره في بلدة قريبة من حَيِّنا، فكان أول ما يفعله إذا بلغ الحى أن يأتى صاحبًا له كان يجعل عنده عجلته ومكنسته، ومِكْتَله وخشباته، فإذا أتاه أجلسه على أريكة بباب بيته، ثم أخرج إليه طبق فطوره وكوب شايه، فإذا فرغ منهما، بَدَّل أثوابه، وأخرج عُدَّته وأداته، وزاد في سعة صندوق عجلته بأربعة ألواح غلاظ من كرتون يقيمهن في أجناب صندوقه الأربعة ويحيطهن بأشرطة تثبتهن، ثم يبدأ عمله بأخذ ما يكون عند صاحبه هذا من كناسة داره، ثم ينطلق خلال الديار مسرعًا غير مبطئ، ولا ملتفت، ولا متكاسل، فالحى كثير السكان، كثير النفايات، فكان منها ما يلقيها أهلها في عرض الطريق فكان يأخذها في جملة ما يأخذ مُتَشَكٍّ ولا متذمر، وكانت طائفة منهم تتقذر أن تفعل ذلك فكانوا يرتقبون "عم عشرى" فإذا مَرَّ بهم أخرجوا إليه أكياسهم على قريشات معدودات يعطونها إياه، فيأخذها ثم يعود مُقْبِلًا بمكنسته على الطريق يكنسها، ثم يجمع كُناستها ناحية، ثم يهوى إليها بخشبتيه فيرفعها فيملأ بها مِكْتَله ثم يفرغه في صندوق عجلته، ثم يدفعها مسرعًا إلى بعض الطريق فيفعل به كفعله الأول، فكنت لفرط نظافة الطريق من بعده تحسب أن وزيرًا سَيَمُر بديارنا، أو وجيهًا سينزل بحيِّنا! فإذا علا وامتلأ وثقل صندوقه، وقرب أن يحجب الطريق عن عينيه، وأوشك أن يسقط من بين يديه، وكاد أن يرد عليه فتق جنبيه، فحينئذ يذهب ليفرغه وإنه لينوء به من فرط ثقله، فقد كانت عجلته تلك لا تسير حتى تُرفع رفعًا ثم تُدفع، ولا يزال الرجل كذلك في كنس وجرف، وإقبال وإدبار، وجمع وإفراغ حتى ينتصف النهار، فيرجع إلى بيت صاحبه، فيودع عنده عجلته ومكنسته، ومِكْتَلَه وخشباته، ثم يغسل عنه الغبار والأوضار، ثم يلبس جلبابه، ووشاحه، وساعته، وينصرف إلى بلدته راشدًا، فكان هذا دأبه وديدنه سنين كُثُرًا لعلها تبلغ العشرين سنة، لم يقطعه عن ذلك يوم بارد، ولا يوم قائظ، ولا يوم ثائر، وإنه ليس يحسن بنا أن يُذكر اليوم الثائر فنمر به مرور الكرام، فإن مروره بنا لم يكن مرور كرام!

فلقد أدرك مصرَ هذا اليوم الثائر أواخر كانون الثاني (يناير) من عام 2011 فيما دُعِى "بثورة يناير"، وفيه اعتَلَّ ما كان صحيحًا، وزاد اعتلال ما كان معتلًّا، واختل نظام كل شىء، حتى الشمس كانت أيامئذ تبدو لعينيك طالعة تتوسط السماء، لكنك لا تجد لها ضوءًا في نفسك، بل تجدها كاسفة مظلمة! وفيه أصبح (الناس فوضى لا سراة لهم)، فإنه لما أُسقط النظام، وانتحى ذوو السلطة، وعُزِل الرئيس الفرد، جاء مكانه مائة مليون رئيس فرد، لهم مائة مليون هوى، وفى أيديهم مائة مليون مرسوم ينفذون به إرادتهم في كل شىء يَعِنُّ لهم، فمن لم يكن من قبل راضيًا عن عمل ديوان من الدواوين دخله فأحرقه وانتهبه، ومن أراد قطعة سلاح يبيعها أو يبطش بها هجم على مخفر شرطة فاستلب سلاحه ليس يمنعه من ذلك شىء، ومن وجد مسربًا إلى متحف انسل إليه فانتهب ما خَفَّ نهبه من الآثار والكنوز وانطلق بها يلتمس سمسارًا أو مُبتاعًا، ومن لم يعجبه حكم محكمة أقبل عليها بالنار يحرقها ليمحو ما كان عليه من أقضية، ومن كانت له حاجة يريد قضاءها قطع طريق الناس، ومن أراد زيادة أجر أضرب عن العمل وأغلق الأبواب دون حاجات الناس، ومن وجد أرض خلاء، أو مسكنًا خاليًا من أهله جاءه بعصبته فاقتحمه وسكنه، فلم تكن لتخرجه إلا أن تأتى له بالرجال والسلاح فيطردونه طردًا، أو أن تصرفه ببعض المال لتفك به رهن دارك التى في يده! ومن كانت تحت يده أرض زرع وحرث ذهب فاقتلع نخلتها وحِنطتها، واحتفر طينتها، ووضع فيها أساس بيته، فلا ينقضى أسبوع إلا وهو بناء مرتفع، والزرع من حوله منقلع، ولا تسله عن رخصة ولا إذن، فهو المُشَرِّع، وهو المُرَخِّص، وهو الآذِن، وهو المالك، وهو الباني، وهو الحكومة! وكان من اشتكى فقرًا أقبل على وَلَد جاره، أو حفيد رب عمله فأخذه رهينة ليفتدوه بالمال الكثير!

فكان حال عامة الناس في هذا الهرج والمرج إما خفراء في لجان شعبية بالليل لرد اللصوص والسراق عن دورهم ومساكنهم، أو معتصمين في الشوارع والطرقات بالنهار للمطالبة بحقوق وزيادة أجور، إلا ما كان من "الأمير نظام الدولة عشري المصري"، ذلك الذى ذكرت لك أول المقالة أنه كان "كنَّاس الحي"، فإنه جدير منذ ذلك الزمان أن يُنْعَم عليه بلقب "الأمير نظام الدولة" بعد ما رأيته منه أيام الثورة، فأما دُعائي إياه "بالأمير" فلأنه ككل إنسان وقتئذ كان أمير نفسه إن شاء عمل، وإن شاء تكاسل، وإن شاء أضرب وافترش الطريق، لكنه كان أميرًا حقًّا على نفسه يحسن سياستها، وضبطها، ويملك أمرها، فلم تشذ به نفسه عن جادة الصواب وقت شذ الناس، ولا نكص على عقبيه حين نكص الناكصون، فالرجل لم يكد يغير عادته في التبكير إلى عمله، والطواف بالطرقات، وجمع القمامات في تلك الأيام العِصاب، وأما دعائى إياه "بنظام الدولة"، فلأنه صار في نفسى حينئذ "نظام الدولة" الحاضر الشاهد، ورُكنها القائم الثابت في هذه الفوضى والتفلت، ولقد كان تطوافه بالحى تقعقع عجلته، أوقع طمأنينة في قلبى من صيحات الشبان في الميدان، و تناظر الساسة على التلفاز، أو خطبة رئيس حزب في جمهوره، فأولئك كانوا يَعِدون ويُمَنُّون بما لم يكونوا يستطيعون ولا يملكون، وبين وعد وعجز وأمنية كان الناس يموج بعضهم في بعض اضطرابًا واقتتالًا، أما "الأمير نظام الدولة عشري المصري" فلم يكن يعد ولا كان يُمَنِّى، بل كان ديوان حُكم لم يدرك عمله اعتلال، وإيوان مُلْك لم يمس نظامه اختلال.

فلمثله تكون التحية والإكرام على طول الدهر.