هل كان بالإمكان أن تكون المغربيات اليوم قاب قوسين أو أدنى من نسخة جديدة من مدونة للأسرة، تختزل الوضعية القانونية، الاجتماعية، الاقتصادية والرمزية لهن، لولا إرادة ملكية واضحة بادرت لدفع عجلة التغيير؟ وهل كان بالإمكان أن نكون مجتمعاً يسبق جيرانه ويقطع خطوات متتالية أكبر، أوسع وأجرأ في مسار التنمية والتطور، لولا حرص ملكي على وضع المغرب على سكة التحديث والحداثة، ووضع المرأة كأكبر مؤشر لها؟
من المؤكد أن المؤسسة الملكية كانت في الموعد، رؤية وفكراً، خطاباً ومبادرة لبناء مجتمع جديد تتمتع فيه النساء بكامل المواطنة، وقد عبرت طوال ربع قرن عن إنصات ورؤية استباقية وانغراس في قلب نبض الناس.
الملك محمد السادس في صورة تذكارية مع النائبات البرلمانيات خلال افتتاحه احدى الدورات التشريعية
المناسبة شرط كما يقال، ونحن اليوم نخلد الذكرى الـ25 لتولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم، لا يمكن تجاوز محطات كثيرة دالة تغيرت فيها حياة المغربيات.
لنتأمل صنيع الرعاية الملكية للنساء، ولنتأمل المبادرات العديدة التي كان للملك محمد السادس فيها قيادة التحول فيما يخص الحقوق الإنسانية للنساء، وتحيين الآليات والتشريعات المرتبطة بالمرأة والأسرة.
منذ توليه الحكم في يوليو 1999، كان للملك محمد السادس خطاب واضح متناسق يصبو نحو ملكية دستورية مواطنة، ويسمح برؤية مشروع مجتمعي ومسار نحو تحولات عميقة تأخذ فيه النساء مكانتهن.
لقد سمح ذلك ببناء صورة جديدة للملكية: إنها حداثية تتبنى اختيارات جديدة، تؤمن بالتفكير الجماعي والارتقاء بالطموحات المجتمعية والحقوقية.
نحن الآن في يوليو 2024. نقف على ناصية ربع قرن من التراكم، وما بين تاريخين صنعا معالم العهد الجديد، إصلاحات ومحطات كثيرة سيوثقها بفخر تاريخ نساء المغرب.
وفي استقراء سريع يمكن الإشارة إلى أن القضية النسائية حققت قفزة نوعية مع مبدئي الإنصاف والمساواة الذي لم يطرح كخطاب فقط، بل استدعى أخذ قرار تاريخي وهو تغيير مدونة الأحوال الشخصية، هذا التغيير الذي حملته سنة 2004 يفيد بأن الملك كان له إنصات سياسي للحركة النسائية بتلويناتها وحنكة سياسية لأنه تدخل من أجل الحسم في قضية عرفت الكثير من التشنجات.
الملك محمد السادس لدى استقباله لاعبي المنتخب المغربي وامهاتهم عقب مونديال قطر
بالنسبة للكثيرين، تعود خصوصية المرحلة الملكية لمحمد السادس، في جزء كبير منها لهذا الجانب الذي لا يمكن الاستهانة به، والمتعلق بتحقيق الإنصاف للمرأة وهو سعي عبر عنه الملك منذ الخطب الأولى.
إذ قال: "أما بالنسبة للأسرة والنهوض بأوضاع المرأة فإنني قد أبرزت إشكالها الجوهري غداة تحملي الأمانة العظمى لإمارة المؤمنين"، متسائلاً في خطاب 20 أغسطس لسنة 1999: "كيف يمكن الرقي بالمجتمع والنساء اللواتي يشكلن نصفه تهدر حقوقهن ويتعرضن للحيف والعنف والتهميش في غير مراعاة لما خولهن ديننا الحنيف من تكريم وإنصاف؟"
وفي خطاب افتتاح الدورة البرلمانية بتاريخ 10 أكتوبر 2003 قال الملك محمد السادس: "فضلاً عما اتخذناه من قرارات ومبادرات ذات دلالة قوية للنهوض بأوضاع المرأة وإنصافها؛ فإننا لم نتردد في تجنيب المجتمع مغبة الفتنة حول هذه القضية بتكوين لجنة استشارية متعددة المشارب والاختصاصات لاقتراح مراجعة جوهرية لمدونة الأحوال الشخصية عاملين على تزويدها بتوجيهاتنا السامية باستمرار إلى أن رفعت إلى نظرنا السديد حصيلة أعمالها".
تلتقي الخطابات الدالة للملك مع قرارات ومبادرات كثيرة تستهدف صنع واقع جديد للنساء سواء عبر دعم وتكثيف التمثيلية السياسية خلافاً لتباطؤ المجتمع السياسي والأحزاب، وجعل تمكين النساء في صلب الخطط الوطنية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
يتعلق الأمر بمدونة الشغل (2004)، إصلاحات القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية (2003)، وقانون الجنسية 2007 الذي أعطى المغربية حق منح جنسيتها لأبنائها من زوج أجنبي، ثم سحب المملكة المغربية التحفظات المسجلة بشأن الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة المعروفة اختزالاً بـ"سيداو"، واعتماد إعلان الألفية والعمل على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية (2015) بما في ذلك تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين النساء، ثم جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة، والذي يضع المساواة بين الجنسين في صميم خارطة طريق أهداف التنمية المستدامة، والانخراط في الأجندة الأممية "النساء، السلم، الأمن"، وقرارات كثيرة أخرى.
من الصعوبة بمكان الإحاطة هنا بكل القرارات الملكية التي تترجم رؤية نسقية موجهة لكل الإصلاحات ذات الصلة بقضايا المرأة، وبكرونولوجيا المبادرات والبرامج التنموية والاستراتيجيات الوطنية الكبرى التي صنعت دينامية التغيير، ولكن يمكن الإشارة إلى معطى مهم هو صياغة تعاقد جديد للنساء بصفتهن مواطنات كاملات المواطنة، وقد مثل دستور 2011 الذي كرس مبدأ المناصفة والمساواة بين المرأة والرجل (18 بنداً لقضايا حقوق المرأة) ونص على آليات مؤسساتية ترمي لاحترام حقوق المرأة، تجلياً واضحاً للمشروع المجتمعي الجديد.
هناك محطة أخرى لها أهميتها وتتعلق بالشأن الديني أو ما اصطلح عليه بجندرة الحقل الديني وتأنيث عدد من المؤسسات الدينية.
ويمكن أن نشير إلى أن الملك محمد السادس وسع المجال الديني للنساء، وشهدنا في عهده استدعاء أول امرأة لتقديم الدرس الحسني الرمضاني أمامه عام 2003، وتنصيب أول امرأة بالمجلس العلمي الأعلى (2004)، كما فتح الباب للمرشدات الدينيات بمختلف المجالس العلمية المحلية.
لكل ذلك أهميته من الناحية الرمزية لأنه يعكس إرادة ملكية لتعزيز المساواة بعد فترات طويلة من استبعاد المرأة في هذا المجال في الدول العربية والإسلامية. وقد تقاطع هذا مع بعض الإجراءات الملكية الأخرى القوية من حيث الأثر والرمزية.
يمكن هنا استحضار تعيين أول مستشارة للملك في تاريخ المغرب (الراحلة زليخة نصري)، أو القرار الملكي الذي جرى بموجبه فسح المجال للمرأة المغربية لأول مرة بولوج خطة العدالة، إلى جانب الرجل، الذي يأتي في إطار الإصلاح الشامل لمنظومة العدالة 2018.
في خطاب العرش لعام 2022، أكد الملك محمد السادس أن الارتقاء بوضعية النساء هو ضرورة للتنمية، لا يتعلق الأمر بترف أو امتيازات، بل بمسار تكرس بقوة الدستور. وقال: "إن بناء مغرب التقدم والكرامة، الذي نريده، لن يتم إلا بمشاركة جميع المغاربة، رجالاً ونساءً، في عملية التنمية.
لذا، نشدد مرة أخرى، على ضرورة المشاركة الكاملة للمرأة المغربية، في كل المجالات. وقد حرصنا منذ اعتلائنا العرش، على النهوض بوضعية المرأة، وفسح آفاق الارتقاء أمامها، وإعطائها المكانة التي تستحقها، ومن أهم الإصلاحات التي قمنا بها، إصدار مدونة الأسرة، واعتماد دستور 2011، الذي يكرس المساواة بين المرأة والرجل، في الحقوق والواجبات، وينص على مبدأ المناصفة، كهدف تسعى الدولة إلى تحقيقه. فالأمر هنا، لا يتعلق بمنح المرأة امتيازات مجانية، وإنما بإعطائها حقوقها القانونية والشرعية. وفي مغرب اليوم، لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها. وهنا، ندعو لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها" (يوليو 2022).
إن الانتقال بين زمنين، هو بالضرورة انتقال بين واقعين، ومن المؤكد أن ما تحقق خلال ربع قرن من حكم الملك محمد السادس هو بمقياس الإنجازات مهم جداً، ذلك أن المؤسسة الملكية تؤكد أنه "في مغرب اليوم لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها". فالورش المفتوح اليوم لمراجعة مدونة الأسرة يرسخ هذه الإرادة، ولذلك فإن انتظارات المغربيات من هذه المراجعة مطبوعة بالكثير من الإيجابية والأمل.
التعليقات