لطالما تميزت الجزيرة كمنبر إعلامي يملك إمكانيات مادية وبشرية كبيرة، وتصدرت المشهد الإعلامي العربي، ولعبت دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام العربي، سواء عبر توثيق أبرز محطات التاريخ الحديث أو في مواكبتها للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر التغطية المباشرة وتحليل أبعاد حدث معين أو من خلال التقارير الإعلامية المكتوبة والمصورة. لكن التميز الإعلامي لا يعفي بالضرورة الوسيلة الإعلامية من سلطة النقد، وبالأخص عندما تتبنى شعار الرأي والرأي الآخر، بل كلما زادت أهمية الوسيلة الإعلامية وتأثيرها، زادت الحاجة إلى مساءلتها وتحليل خطابها لنتمكن من غربلة المحتوى وفرز نوعية الأخبار التي نستهلكها.

في حلقة "أسرار الطوفان"، التي لا تزال تكتسح المزيد من نسب المشاهدة، ركز برنامج "ما خفي أعظم" للجزيرة على تقديم سردية تركز بشكل شبه حصري على نجاح حماس في اختراق المنظومة الأمنية الإسرائيلية. وبالرغم من أهمية هذا الحدث عسكريًا واستراتيجيًا، إلا أن عدم تقديم رؤية تحليلية متوازنة يضعف من مصداقية الطرح، ويجعله موجهاً لجمهور منحاز سلفًا بدافع العاطفة ومستعدًا لاستهلاك أي مادة إعلامية دون الحاجة إلى تحليل ونقاش.

استطاعت الحلقة أن تنفرد بمشاهد وصور حصرية وحقائق مثيرة عززت سرعة انتشار هذه المادة الإعلامية، لكنها افتقدت لأهم عناصر العمل الصحفي، وهو الموضوعية. وبينما يُحسب للحلقة إفساحها المجال لمصادر داخلية من الجانب الإسرائيلي ترى الأمور من نفس الزاوية التي حاول البرنامج تسويقها، فإنَّ افتقارها إلى عرض الرواية المقابلة بموضوعية يجعلها أقرب إلى إعداد "وثائقي عسكري"، أو إن صح القول، كدعاية أكثر من كونها توثيقًا لحدث كبير في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

إقرأ أيضاً: من يتحمل فاتورة إعمار غزة؟

ثمة زاوية مهمة تم تغييبها في هذه المادة الإعلامية، وهي البعد الإنساني للحدث، حيث لم تقدم حلقة "أسرار الطوفان" أي معالجة جادة للثمن الباهظ الذي دفعه سكان غزة نتيجة الهجوم الإسرائيلي العنيف. فقد تسببت العملية في دمار واسع وسقوط عدد هائل من الضحايا المدنيين، وهو ما كان يستدعي مساءلة قيادة حماس عن خطتها لحماية المدنيين ومدى وعيها بحجم التصعيد الإسرائيلي المتوقع، ومراعاتها للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يرزح تحتها سكان قطاع غزة، وكأنها تبرير غير مباشر لقرار عسكري الهدف منه تحقيق انتصار معنوي لا يوازن ما بين حجم الأخطار والمكاسب المتوقعة.

إحدى الإشكاليات البارزة في الحلقة هي محاولة نفي تهمة استهداف المدنيين خلال الهجوم. فمن جملة ما جاء في هذه الحلقة، تصريح أحد المقاتلين الذين شاركوا في الهجوم، إذ ادعى هذا الأخير أن الطيران الإسرائيلي هو من قصف المستوطنات أثناء محاولته صد الهجوم دون مراعاة سلامة المدنيين الإسرائيليين المتواجدين في قلب ساحة العمليات. لكن هذا الادعاء يتناقض مع الفيديوهات التي انتشرت في الأيام الأولى من الهجوم، والتي أظهرت إطلاق نار عشوائي في بعض عمليات الاقتحام، بالإضافة إلى تصريحات رسمية من القسام، أبرزها تهديد أبو عبيدة بقتل الأسرى الإسرائيليين إذا استمر القصف على غزة، مما يثير تساؤلات حول مدى دقة الرواية المقدمة. كما أن تجاهل الحلقة للأدلة المستقلة حول الهجوم على مهرجان “رعيم”، الذي قُتل فيه أكثر من 260 مدنيًا، يعكس انتقائية واضحة في عرض المعلومات، وهو ما يجعلها أقرب إلى الدعاية منها إلى الصحافة الاستقصائية الحقيقية.

إقرأ أيضاً: التقارب بين لبنان وسوريا ضرورة إقليمية

صحيح أن عملية "طوفان الأقصى" كشفت عن خلل كبير في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، سواء على مستوى الرصد الاستخباراتي أو التخطيط العسكري الاستباقي، لكن لا يمكن إنكار مدى أثر العامل الداخلي الذي خدم بشكل ملموس عملية حماس. فمن حيث التوقيت، كانت إسرائيل منقسمة سياسيًا بشكل غير مسبوق بفعل تداعيات أزمة القضاء وما تلاها من سياسات لنتنياهو، والتي خلقت نوعًا من صراع الأجنحة ما بين الحكومة والجيش والمخابرات، الأمر الذي أحدث خللًا بالغًا في منظومة التنسيق والاتصال انعكس على الأداء الأمني والاستخباراتي. وقد يعزز تقرير صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية الأخير هذه الفرضية، خاصة وأن ما جاء في التحقيقات التي تجريها السلطات الإسرائيلية عن هجوم حماس يؤكد أن منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي لم تتحرك بعد تلقيها تنبيهات حول نشاط جوي لحماس قبل ساعات من هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، رغم وجود حجم غير اعتيادي من الاتصالات بين رئيس شعبة العمليات وكبار قادة سلاح الجو.

إقرأ أيضاً: مخيم اليرموك للاجئين.. من الألم إلى الأمل

في حروب بحجم حرب غزة الأخيرة، يصعب على الإعلام الحفاظ على دوره التقليدي كناقل محايد للأحداث، خاصة عندما تتحول التغطية إلى أداة في معركة السرديات. هذا ما حدث مع قناة الجزيرة، التي ركزت على إبراز النجاح العسكري لعملية "طوفان الأقصى"، واستحال عليها التطرق بموضوعية إلى الأسئلة الجوهرية التي يفرضها حدث بهذا الحجم والخطورة، مثل: هل أخذت حماس في الحسبان التداعيات العكسية المحتملة لهذه العملية؟ هل أخطأت حماس عندما قللت من شأن حجم الرد الإسرائيلي، تاركةً حماية المدنيين لجهات لم تثبت فاعليتها في المواجهات السابقة؟ ما الذي حققته عملية "طوفان الأقصى" في حسابات الربح والخسارة؟ غياب هذه التساؤلات عن التغطية يجعل الصورة المقدمة غير مكتملة.