إذا كان سوق العمل اليوم قد أصبح معتركًا تتصارع فيه الأفكار والتقنيات، فإن أيسر السبل إلى النجاح فيه تتمثل في الإعداد المبني على الفكر المستنير؛ القادر على التكيّف مع تحديات العصر واستيعاب معطياته الجديدة. وليس من شك في أن التفكير العابر للتخصصات Transdisciplinary Thinking قد أضحى من أهم أدوات هذا العصر، إذ يُتيح للفرد أن يتجاوز حدود تخصصه الضيق، ويندمج في شبكة معرفية متداخلة، تتجاوز الفواصل التقليدية بين العلوم والفنون والمهن.
ولكن، كيف يمكن للفرد أن يعدّ نفسه على هذا النحو، في زمن صار فيه التخصص الدقيق ضرورة ملحّة، وشرطًا لا غنى عنه في بعض المجالات؟ أليس في دعوة الفرد إلى الخروج من إطار تخصصه مغامرة قد تعود عليه بالضرر بدل النفع؟ إن هذا السؤال، وإن بدا وجيهًا لأول وهلة، لا يلبث أن ينقلب إلى مغالطة متى نظرنا إلى التحولات العميقة التي تشهدها بنية العمل في القرن الحادي والعشرين.
لقد كان الفكر التقليدي يقوم على مبدأ التخصص الصارم Hyper-specialization؛ حيث يُنتظر من الفرد أن يتقن مهنة واحدة، ويمضي حياته كلها في تطوير مهاراته ضمن نطاقها المحدود. أما اليوم، فقد أصبح التخصص وحده قاصرًا عن استيعاب تعقيدات الواقع المهني، إذ تتطلب معظم الوظائف الحديثة معرفة متعددة الأبعاد Multi-dimensional Knowledge، وقدرة على دمج الأفكار والمفاهيم من حقول معرفية مختلفة.
ولنأخذ مثالًا على ذلك: لم يعد المهندس المعماري، في عصر التصميم الذكي Smart Design، مجرد صانع للخطط الهندسية، حيث أصبح مطالبًا بفهم علم النفس السلوكي Behavioral Psychology، وإدراك تأثير التصميم على الإنتاجية والراحة النفسية، والإلمام بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال البناء المستدام. كذلك، لم يعد عالِم البيانات مجرد مبرمِج، ولكن ينبغي له أن يكون ملمًّا بعلم الاجتماع الرقمي Digital Sociology؛ ليتمكن من تحليل أنماط السلوك البشري استنادًا إلى البيانات الضخمة Big Data Analytics.
إقرأ أيضاً: كيف تُعيد السعودية تشكيل معادلة الترفيه العالمي؟
أما الشركات الكبرى، فقد أدركت أن النجاح مرهون بقدرة فرق العمل على التفكير التشاركي المتداخل Collaborative Cross-disciplinary Thinking وليس امتلاك خبرات متخصصة فحسب؛ حيث يتعاون المختص في التقنية مع الخبير في الأنثروبولوجيا الرقمية، ويعمل المحلل المالي مع المصمم الإبداعي Creative Strategist، في أنموذج جديد من التفاعل المهني يطلق عليه اسم "التعلم العابر للتخصصات Transdisciplinary Learning".
على أن هذا النموذج من التفكير لا يُمكن أن يترسّخ دون إصلاح جوهري في أنظمة التعليم، التي ما زالت تعتمد في كثير من الأحيان على الفصل الصارم بين التخصصات. فلو ألقينا نظرة على الجامعات الرائدة في العالم، لوجدنا أنها بدأت في تبني مسارات أكاديمية مرنة Flexible Academic Pathways، تتيح للطالب أن يدرس علوم الكمبيوتر مع الفلسفة أو البيولوجيا مع الفن أو الهندسة مع علم الأخلاق، في أنموذج أطلق عليه الباحثون اسم "التعليم التكامليIntegrated Education".
إقرأ أيضاً: السعودية ترسم خارطة التعافي لسوريا!
ولعل أحد أهم المبادئ التي يقوم عليها التفكير العابر للتخصصات هو "النقل المعرفي Knowledge Transferability"، أي القدرة على تطبيق مفاهيم من مجال معين في مجال آخر. وهذا المبدأ قد أضحى اليوم جوهر الابتكار في مجالات مثل الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics، الذي يدمج بين علم النفس والاقتصاد، أو الهندسة الطبية الحيوية Biomedical Engineering، التي تجمع بين الهندسة والعلوم الصحية، أو حتى الصحافة البيانية Data Journalism، التي تمزج بين علوم الإحصاء والإعلام الرقمي.
ولكن، كيف يمكن للفرد أن يهيئ نفسه لهذا الأنموذج الجديد من التفكير؟ هنا، يأتي دور التعلم المستمر Lifelong Learning، الذي أصبح ضرورة ملحّة وقائمة. فالفرد الذي يحرص على تنمية معارفه عبر المساقات المفتوحة MOOCs: Massive Open Online Courses، والانخراط في شبكات التعلّم المهني Professional Learning Networks، سيكون أكثر قدرة على التكيف مع التحولات المتسارعة في سوق العمل.
إقرأ أيضاً: السعودية وصناعة التاريخ: حين يقف العالم أمام رجل عظيم
وفي نهاية المطاف، لا يسعني إلا أن أقول: إن التفكير العابر للتخصصات ليس ترفًا فكريًا، ولا هو ضرب من ضروب التنظير الأكاديمي، حيث هو ركيزة أساسية لمن يريد أن يصنع له مكانًا في مستقبل العمل. وهو ما يمكّنه من رؤية الصورة الكاملة، والتفاعل مع التعقيدات الحديثة برؤية شاملة، وابتكار حلول تتجاوز حدود المعرفة التقليدية.
التعليقات