التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي متنوّع وغير معتمد على النفط لم يعد خيارًا تنمويًا بل ضرورة إستراتيجية لبلدان الخليج. الدروس الأخيرة — من تقلبات أسعار النفط إلى قيود الإنتاج وأثرها على النمو والمالية العامة — أظهرت هشاشة الاعتماد الأحادي على مصدر دخل واحد، بينما أبانت فترة انتعاش النشاط غير النفطي عن قدرة هذه الاقتصادات على الصمود والتعافي. بيانات وصِيَغ مؤسساتٍ مرموقة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والهيئات الإحصائية في دول الخليج تؤكد هذا المسار وتوضّح الأسباب والفرص والأرقام خلفه. ومع تقليل الاعتماد على النفط، تتعرض اقتصادات المنطقة لصدمات أقل من حيث تذبذب الأسعار أو تقلبات العرض، وهذا بدوره يعزز قدرة الحكومات على استثمار مواردها في مشاريع تنموية طويلة الأجل.
إحدى أهم فوائد هذا التحول تتمثل في تنويع الإيرادات العامة، ما يسمح للحكومات بتمويل المشاريع والخدمات بصرف النظر عن ديناميكيات سوق النفط. على سبيل المثال، الهيئة العامة للإحصاء في السعودية أشارت إلى نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 4.6 بالمئة خلال الربع الثاني من 2025، وهو ما يعكس تحولًا نحو مصدر دخل أكثر استدامة بدل الاعتماد الهش على النفط. بفضل هذا التحول، يمكن تقليل العجز المالي وإعادة توزيع الإيرادات بما يخدم التنمية المستدامة.
كما أن القطاعات الإنتاجية والصناعية والخدمية المتقدمة ما تزال مفتاحًا لخلق وظائف مستدامة للشباب والكوادر المحلية. الأنشطة مثل التصنيع المتقدم، الخدمات اللوجستية، السياحة والمالية الحديثة تتيح فرصًا مهارية أعلى من تلك المرتبطة بالقطاع النفطي التقليدي. وتشير تقارير من صندوق النقد والبنك الدولي إلى أن النمو غير النفطي يقلل من البطالة ويعزز الإنفاق الاستثماري، مما يعزز العلاقة بين قوة العمل والاقتصاد الحقيقي.
من ناحية التصدير، تعزّز صادرات السلع غير النفطية من قدرة الدول الخليجية على المشاركة في التجارة العالمية وتقوية ميزانها التجاري. في الإمارات، على سبيل المثال، تشير تقارير المصرف المركزي إلى أن تجارة السلع غير النفطية خلال عام 2024 تجاوزت التوقعات الأوليَّة، مع ارتفاع تصدير المنتجات المصنعة، ما يعكس انخفاضًا في الاعتماد على النفط وزيادة اندماج هذه الاقتصاديات مع الأسواق العالمية.
لكن هذا التحول لا يتحقق بمجرد رغبة؛ بل يتطلب سياسات عملية واضحة. ينبغي تحفيز الصناعة التحويلية ذات القيمة المضافة العالية — مثل الكيماويات المتطورة والطاقة المتجددة والصناعات الغذائية المصنعة — عبر حوافز ضريبية واستثمارات في البنية التحتية الصناعية. ومن جهة أخرى، يتطلب توسيع القطاعات الخدمية المتقدمة مثل السياحة المستدامة والخدمات المالية والتعليم العالي، إذ إنها توفّر توظيفًا متنوعًا وتُسهم في تعزيز القيمة الاقتصادية المحلية.
ولا بد أيضًا من استراتيجية تصديرية للمنتجات غير النفطية، تشمل دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لصناعة سلاسل قيمة قابلة للتصدير، وإبرام اتفاقيات تجارية مستهدفة، وتسهيل شبكات التصدير للخارج، بعيدًا عن التركيز على المواد الخام فقط. مع ذلك، يبقى التمويل محوريًا، ولذلك يجب تعزيز الحوكمة وإنشاء صناديق استثمارية للابتكار، وتوفير ائتمان ميسَّر وتدريب مهني يرتبط باحتياجات القطاع الصناعي والخدمي المتطور.
ربط التعليم بسوق العمل أمر لا غنى عنه في هذا الطريق: من خلال إصلاح المناهج، والاستثمار في التعليم التقني والبحث العلمي، وتعزيز الشراكات بين الجامعات والقطاع الخاص لتحويل البحث إلى منتجات قابلة للتصنيع والتصدير، يمكن بناء قاعدة إنتاجية محلية قوية ومستدامة.
لم يعد الوقت مناسبًا للمماطلة، فمع تقليص بعض الدول من حصص النفط واستمرار تقلبات السوق، تظهر بوضوح الميزة لمن يوسّع قاعدته الإنتاجية. المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي تؤكد أن الدول التي تستثمر في نشاطات غير نفطية ستكون أقل عرضة للأزمات عند هبوط أسعار النفط، إذ إن قاعدة إيراد أكثر تنويعًا تمنح مرونة مالية وسياسية.
التحول إلى اقتصاد إنتاجي غير نفطي لم يعد خيارًا بل ضرورة استراتيجية لمستقبل أكثر استدامة في دول الخليج. وتُظهر الأرقام الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد والهيئات الرسمية في المنطقة أن الاستثمار في الصناعة المتقدمة والتصدير والابتكار والتعليم يتيح بناء اقتصاد أكثر متانة وأقل عرضة للتقلبات، ويولد وظائف ذات قيمة مضافة ويُعزز استقرار الإيرادات العامة. وهذا المسار هو الطريق الفعلي نحو نهضة اقتصادية طويلة الأمد تضمن للخليج قدرة تنافسية عالمية واستقرارًا ماليًا مستدامًا.
























التعليقات