رحلت الفنانة التشكيلية السويسرية التي حولت قرية صغيرة جنويي العاصمة المصرية القاهرة إلى مقصد فني وسياحي، بعد عملٍ دؤوب استمر عقودا من الزمان.
وتوفيت الفنانة إيفلين بوريه، الثلاثاء الماضي، عن عمرٍ ناهز 82 عامًا بقرية تونس بمحافظة الفيوم، حيث استقرت منذ أكثر من 50 عامًا وأسست أول مدرسة لتعليم وتصنيع الخزف والفخار في المنطقة، مُسهِمة في تحويل القرية لمقصد سياحي عالمي ومركز إقليمي لصناعة وتصدير الخزف والفخار.
تعد بوريه إحدى أولى النساء الرائدات في المشاريع الخاصة في صعيد مصر، فقد استطاعت الحفاظ على استمرارية القرية بدعم تلاميذها في تأسيس مدارسهم وورشهم الخاصة، حتى أصبحت القرية اليوم مركزا للفن والخزف في مصر.
وصفها إبراهيم عبلة، نجل الفنان التشكيلي محمد عبلة ومدير مركز الفيوم للفنون، بمن بدأ مسيرة القرية الفنية، وأثنى على "عطائها المستمر" للمكان وإيمانها بإمكانية تغييره عن طريق الفن.
الهجرة إلى قرية تونس
درست بوريه الفنون التطبيقية في سويسرا قبل هجرتها إلى مصر عام 1965، لتستقر في قرية تونس بمحافظة الفيوم، بعد أن رشحها لها بعض الأصدقاء مشيدين بجمال القرية.
وتقول في لقاء تلفزيوني مع بي بي سي عام 2016، بلغة عربية ولكنة مصرية سليمة، كانت تجيدها بعد سنين من الاستقرار في مصر، إنها لطالما أحبت الأجواء الريفية حتى في بلدها الأم، كما تحكي عن انبهارها بالفنون الريفية في مصر.
وأضافت في ذلك اللقاء: "أحب أن أعمل في مكان توجد فيه مناظر جميلة أمامي بإمكاني رسمها، مثل النخل هنا والحيوانات هناك. كما أن هناك أيضًا مناظر حلوة في الصحراء هنا".
وجدت بوريه في قرية تونس بمحافظة الفيوم المقر المناسب لتأسيس أسرة، حيث كانت حريصة على نشأوة أولادها في بيئة ريفية طبيعية، بعيدًا عن الحدود التي يفرضها الحضر على سكانه.
ورغم عقود عاشتها بوريه في مصر حتى وفاتها ودفنها، لم يتسن لها الحصول على الجنسية المصرية حتى بعد محاولات استمرت عشرات الأعوام، ولكن منحتها الحكومة المصرية منذ أعوام تصريح إقامة لفترة طويلة.
تحدثت الفنانة مع بي بي سي عن رغبتها في الحصول على الجنسية المصرية، مشددة على أنها لا تحب الشعور بأنها "أجنبية" في مصر، حيث ترى إن هناك "مصريين أجانب أكثر منها".
مدرسة الفخار
يقول إبراهيم عبلة، أحد جيران بوريه في قرية تونس، لبي بي سي إن الفنانة السويسرية لمست الإمكانات الفنية التي يتمتع بها كثير من أطفال وشباب القرية، حيث يصنعون أشكال الحيوانات المختلفة حين اللعب بالطين.
وتشيد بوريه في حديث مع التلفزيون المصري عام 2019 بتلقائية أهل قرية تونس في العمل الفني، فتقول إن أهل القرية تعودوا على صناعة الأشكال الفنية المختلفة أثناء اللعب بالطين، وأثناء عجن الخبز أيضًا، كما تبدي إعجابها الشديد بمهاراتهم الفنية، مؤكدة أنهم يستطيعون تنفيذ منتجات ليس بإمكانها هي أن تصنعها.
وأضافت أن هذه المهارات "جعلتهم يظهرون شخصيتهم وليس شخصيتي أنا".
وعند زيارة تلفزيون بي بي سي عربي لقرية تونس عام 2016، تحدثنا مع بعض الطلاب والطالبات في مدرسة بوريه لتعليم الفخار، وحكوا لنا عن المهرجان الذي كانت تعده الفنانة في القرية لعرض إنتاجهم الفني، كما قالت بوريه إنها تعرض المنتجات أحيانًا في الخارج.
وقالت في لقاء لها أيضا مع التلفزيون المصري: "الفخار هو ما غير البلد (القرية) وليس الفنادق، وهذا هو الغريب".
مدينة الفن والعمارة
تعرف إبراهيم عبلة على بوريه منذ أن كان عمره عاما واحدا، حيث زارها والداه لإيصال هدية من صديق في سويسرا، و اضطروا للمبيت في القرية نظرًا لتأخر الوقت.
يصف عبلة المنظر الخلاب الذي دفع أبويه إلى بناء منزل في القرية فيقول: "استيقظوا على أجمل شروق بالنسبة لهم، حيث المزيج بين خضرة (قرية) تونس والبحيرة والجبال في الخلفية".
وساعدت بوريه الأبوين على بناء منزلهما، ويتذكر عبلة كيف كانت القرية أثناء طفولته قبل مدها بخدمات المياه والكهرباء، كما يتذكر عطاء بوريه الفني تجاه القرية ليس فقط في مجال الفخار، ولكن أيضًا في تقديم مدرسة عمارة جديدة على القرية أصبحت الآن أحد أهم معالمها.
ويقول عبلة: "هناك كوادر كثيرة استقرت في القرية من فخارين إلى أدباء وأطباء وفنانين تشكيليين، ولكن هناك دائمًا من يأخذ الخطوة الأولى وهي بالطبع بوريه وليس أي شخص آخر".
ويشدد عبلة أنه ما كان للقرية أن تصبح مركزًا ثقافيًا وفنيًا، رغم جمالها الطبيعي، بدون جهود بوريه وغيرها من الفنانين، ويضيف أن رحيل الفنانة يقدم تحديا للقرية للحفاظ على هوية المكان وحالة الفن الذي تشتهر به.
التعليقات