يقر الدكتور سام العطار أنه ترك جزءا من روحه في غزة. هذا الجزء هو الذي رأى المعاناة ولم يستطع الابتعاد عنها. الجزء الذي لا يمكن الآن أن ينسى.
ويمكن لسام أن يكون جالسا على ضفاف بحيرة ميتشغان في الولاية الامريكية حيث تثير الرياح الأمواج على المياه الخضراء، وفي نفس الوقت يمكنك العودة إلى غزة حيث الحر والموت.
لقد مرت 3 أسابيع على عودة سام إلى الولايات المتحدة، لكنه يشعر بأنه عاد بالأمس فقط، إنه يرى وجوه الفلسطينيين الذين يعانون في غزة أينما ذهب، منهم جنى عياد الطفلة الصغيرة التي كانت تتألم في فراشها في المستشفى، بينما تطلع والدتها الدكتور سام على مقطع فيديو للاحتفال بعيد مولدها قبل أيام فقط من إصابتها.
تحذير: يحتوي هذا المقال على تفاصيل وصور قد يجدها بعض القراء مزعجة
- مسؤولون في الخارجية الأمريكية يقولون إن إسرائيل قد تكون انتهكت القانون الإنساني الدولي
- "إسرائيل تخطط لتوسيع المنطقة الإنسانية مع اقتراب عملية رفح"– نيويورك تايمز
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
ويتذكر سام "أم أخرى فقدت طفلها توا، والذي كان بعمر 10 سنوات كانت تحملق بنظرات تائهة وهي تقول إنه مات قبل 5 دقائق فقط، وبينما كان العاملون بالمستشفى يحاولون تغطية جثته، كانت هي تمنعهم، لأنها تريد أن تقضي معه أطول وقت ممكن، حتى ولو كان وسط البكاء والدموع، استمر الأمر كذلك 20 دقيقة وهي لا تريد تركه".
مثال آخر يتذكره سام، قائلا "رجل في الخمسينات من عمره بترت ساقيه، فقد أطفاله وأحفاده ومنزله، لقد كان وحيدا في ركن منعزل من المستشفى، جروحه ملوثة لدرجة أن الديدان تخرج منها وهو يصرخ من الألم، قائلا إن الديدان تلتهم جسده، طالبا المساعدة، وهذا واحد فقط من المآسي التي عاينتها، ولا أعرف عددها فقد توقفت عن العد".
سام هو طبيب محترف في الأربعينات من عمره، وقد ولد لطبيبين، ولد ونشأ في شيكاغو ويعمل جراحا في مستشفى نورث وسترن بالمدينة. أثناء وجوده في غزة، احتفظ بمذكرات فيديو وقام بتصوير تجاربه.
لمدة أسبوعين في شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان - تعاون سام مع منظمة "الجسر الفلسطيني الأمريكي" غير الحكومية - وعمل في مستشفيات غزة التي كانت تعاني من نقص شديد في كل شيء باستثناء المرضى المصابين بجروح خطيرة. وفي اليوم الذي دخل فيه غزة حيث كانت تعاني نقصا في كل الإمكانات، وكان أولها الجوع وهو أول ما عاينه لدى دخول القطاع.
ويقول "لقد أحاط الناس بالسيارة وبدأوا يدقون النوافذ بأيديهم ويحاول بعضهم القفز فوقها، وعرف السائق أنه لو توقف سيقفز الناس على السيارة، إنهم لا يريدون إيذائنا بل يطلبون الطعام".
ويعتبر سام أن كل يوم في غزة كان يضم معاناة وضغوطا لا حصر لها، فالأطباء يقررون من له الأولوية في الإنقاذ، ومن فقد الأمل في إنقاذه، المصابون يستلقون على الأرض وسط برك من الدماء، والضمادات، وأصوات الصراخ والألم في كل مكان، ممتزجة ببكاء الأقارب.
رعب كهذا لا يمكن محوه من الذاكرة، حتى ولو كنت طبيبا محترفا ومدربا وذهب إلى أماكن صراعات أخرى منها سوريا وأوكرانيا.
ويقول "لا زلت أفكر في كل المصابين وكل الأطباء الذين بقوا هناك، وهناك شعور داخلي بالذنب لأني رحلت رغم حاجتهم الشديدة لوجودي، ورغم ذلك اضطررت للرحيل".
رحلته الأخيرة هي الثالثة إلى غزة، منذ بداية الحرب، وقد تولت منظمة الصحة العالمية تنظيمها، بعدما حذرت من مجاعة في غزة، حيث يعاني نحو 30 بالمئة من الأطفال دون العامين من نقص التغذية، بينما يعاني 70 بالمائة من سكان غزة ككل مما تسميه الأمم المتحدة "جوع كارثي".
واتهم مدير وكالة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تيرك الأسبوع الماضي إسرائيل بارتكاب جريمة حرب بسبب أزمة الغذاء في غزة.
وقال فولكر "حجم القيود الإسرائيلية على دخول المساعدات لغزة مع استمرارها في العمليات العسكرية، ربما ينزلق إلى مستوى استخدام التجويع كسلاح في الحرب".
وتنكر إسرائيل ذلك وتلوم الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة على تأخر المساعدات.
وتقول إسرائيل أن حسابات الأمم المتحدة بنيت على "معلومات نظرية وليست عملية" وإن حجم المواد الغذائية المتاحة في الأسواق شمال قطاع غزة وفير.
وقال بيان للحكومة الإسرائيلية "نعترض على الاتهامات بتعمد تجويع المدنيين في غزة".
ويتذكر سام امرأة في الثانية والثلاثين من عمرها اعترفت بأنها تعاني من سوء تغذية حاد مع ابنها ووالدتها وأبيها وهم يعيشون جميعا في غرفة واحدة، ورغم محاولاته إنعاش قلبها وإنقاذها إلا أنه فشل.
ويتذكر المرأة وهي مستلقية على الفراش ويدها سقطت إلى جواره بينما عيناها تنظران إلى الأعلى بعد موتها.
جنى عياد البالغة من العمر 7 سنوات كانت عبارة عن هيكل عظمي، مكسو بالجلد، كانت أمها تأمل في التوجه إلى جنوب القطاع حيث توجد وضع المنظمات الطبية أفضل.
جنى كانت قد تعرضت لصدمة بسبب الحرب، ونقص الطعام، وهو من الأمور التي تسبب صدمة للأطفال بشكل عام وتمنعهم الصدمة من الطعام، وفي الصورة التي التقطها مصور بي بي سي، تظهر جنى وقد فقدت القدرة على النطق، لكنها الآن تتكلم بصعوبة مع أمها فقط.
وتقول نسمة عياد والدتها "ماذا يمكن أن أفعل، لا يمكن علاجها، حالتها النفسية شديدة التعقيد، فهي لا تتكلم مع أي شخص آخر، وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئا.
ويضيف سام أنه لدى إعداد حاجياته لمغادرة غزة اقتربت والدة جنى منه وقالت "لقد ظننت أننا سنرحل معك، لماذا أنت تغادر ونبقى نحن؟".
واضطر سام للإيضاح أن قافلة السيارات ستتجه جنوبا بهدف الحصول على الإذن بدخول الوقود، والغذاء وليس لإبعاد الناس.
المشكلة أن سام كلما تحدث مع والدة جنى سمعه بقية الموجودين في الغرفة المكتظة بالمرضى وأقاربهم وتجمعوا حوله طلبا للمساعدة.
ولاحقا تم نقل جنى إلى المستشفى في رفح، والتابعة للأطقم الطبية الدولية.
وحسب الأمم المتحدة فإن غالبية القتلى في الجانب الفلسطيني هم من النساء والأطفال حيث قتل ثلاثة عشر ألف طفل وتسعة آلاف امرأة.
والآن الحرب في الشهر السابع منذ بدايتها، بينما تتعثر مفاوضات وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن. ولا زال المصابون بسوء التغذية يتوافدون يوميا على المستشفيات القليلة المتبقية العاملة. وتقول منظمة الصحة العالمية إن 10 فقط من مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى ما زالت تعمل.
وقد قتل 7 من عمال الإغاثة في غزة، الأمر الذي يوضح مدى صعوبة الانتقال إلى القطاع لتقديم المساعدة، وكان بين عمال الإغاثة مواطنون بريطانيون، عندما قصف الجيش الإسرائيلي قافلة السيارات التي كانت تقلهم في الأول من أبريل/ نيسان الجاري.
ويقول سام "نقف عادة ما لا يقل عن 4 ساعات في طوابير مملة لكي نحصل على الإذن بالمرور من الحواجز من الجانب الإسرائيلي، ويعتمد ذلك على سماحهم بمرورنا حسب الإجراءات المتبعة لدى تنفيذ العمليات العسكرية".
ويقول سام "شمال غزة بحاجة للمزيد من الطعام، والوقود والمياة الصالحة للشرب، والطرق يجب أن يتم فتحها، ويجب إجلاء الكثير من المرضى لتقلقي العلاج".
وسوف يعود سام إلى غزة قريبا، بينما المسعف الطبي نبيل الذي اعتاد العمل مع سام يوميا في القطاع وكان يحمل المصابين إلى المستشفى، حتى تحول هو نفسه إلى مصاب، وتم إنقاذه من بين الأنقاض بواسطة زملائه، ورغم أنه حي الآن إلا أنه لن يكون قادرا على مغادرة القطاع.
سام الطبيب الذي قتلت ابنته، كان قويا بما يكفي لمساعدة والدة طفل أصيب في رأسه بشظية.
وفي النهاية ينظر أقارب المصابين دوما إلى الأطباء والممرضين على أنهم سبل المساعدة المتاحة، بشكل عملي لنجاه الجرحى، وحفظ ماء وجه الإنسانية في مكان سيطر عليه الرعب والفزع.
التعليقات