في منطقة برية تشبه الصحراء جنوبي محافظة بابل ، يجهد نسوة ورجال وفتيان بوجوه علاها غبار الفحم الأسود ، في إعداد الخشب اللازم لصناعة الفحم .
وينزل الفتى ستار حميد (15 سنة) الى داخل حفرة عميقة لرض الخشب الذي سيطمر تحت التراب لإنتاج الفحم الذي يعد مادة لا غنى عنها في الكثير من الأعمال اليومية في البيوت وفي المطاعم .
وتقول أم حيدر( 50 سنة ) وهي ترتب جذوع الأشجار والحطب ان صناعة الفحم مهنة شاقة و مردودها المادي قليل ، لكنها فرصة العمل الوحيدة المتاحة امامها .
وتشير أم حيدر إلى أنها على وشك التوقف عن ممارسة هذه المهنة بعد اربع سنوات من العمل ، ساءت فيها حالتها الصحية .
العمل الشاق
ويصف أبو سعيد( 60 سنة ) الذي عمل في هذه المهنة طيلة عقدين واكتسب تجربة جيدة في صناعة الفحم بكفاءة جيدة كيف أن العمل الشاق يحتاج الى وقت وصبر وجهد عضلي يبدأ بإعداد الخشب و جذوع أشجار إلى تقطيعه وترتيبه ليصبح جاهزا للاحتراق.
ويعترف أبو سعيد أن الفحم يسبب له مشاكل في التنفس وأمراض جلدية إضافة إلى حساسية في الأنف . لكن على الرغم من كل ذلك فانه يصمد متحديا قسوة العمل لأجل لقمة العيش .
وفي العراق يطلق على الناس الذين يعملون في هذه المهنة لقب ( الفحامة ) ، وغالبا ما يكونوا من الأقارب والعائلة الواحدة، توارثوا المهنة عبر أجيال .
وبحسب الخبير الصحي سعد الكلابي فان صناعة الفحم من اشد الملوثات للبيئة وينتج عنها آثار صحية خطيرة بسبب الغبار الدقيق الناتج عنها والذي يدخل الى الفم والعيون ويخترق الجهاز التنفسي .
ويتابع: يتصاعد الدخان والغازات من أماكن العمل إلى حد يصعب معه تهيئة جو صحي مناسب في البيئة المحيطة .
وفي كل صباح يجمع أبو سعيد الخشب وأطراف الأشجار على شكل أكوام تدفن في الحفر وتغطى بالتراب ، ليسخن نحو عشرة أيام .
يضيف أبو سعيد : تتيح كمية قليلة من الهواء المار بين ثنايا الخشب المغطى حرق جزء قليل منه ، ثم لا تلبث الحرارة المنتشرة ان تحوله الى فحم نباتي .
مركبات عضوية
وبحسب كريم الزاملي المدرس لمادة العلوم فان ما يحدث بالفعل هو انتزاع الأوكسجين والهيدروجين من مركبات الخشب (السليلوز) التي تتحول إلى مركبات عضوية تحتوي على نسبة كبيرة من مادة الكربون .
ويقول أبو سعيد أن العمل في الأيام الجافة يكون أسهل حيث أن جودة الفحم تزداد كلما قلت نسبة الرطوبة.
ولا يتعدى دخل الفتى سعيد من العمل طوال النهار في إعداد الفحم الخمسة دولارات .
ويقول وهو يقطع أغصان شجرة يابسة ، وعلت على وجهه آثار الدخان : لم تعد صحتي على ما يرام من جراء هذا العمل الخطر على الجهاز التنفسي والجلد .
و تمتلئ رموش سعيد بالغبار الدقيق ، كما يصطبغ وجهه باللون الأسود ، إضافة إلى استنشاقه المباشر للغبار السام بسبب عدم توفر الكمامات الصحية حيث يكتفي بتغطية انف وفمه بقطعة قماش .
ويقول الحاج امين الذي يسوق الفحم الى مركز المدينة: لا نرى في منطقة العمل سوى الدخان والغبار . ويتابع: لم تعد هذه المهنة عملية، لكن الناس مضطرين الى الاستمرار فيها بسبب الحاجة . كما أن عدد العاملين فيها قليل وتحتاج إلى كميات كبيرة من الأخشاب التي أصبحت قليلة في الوقت الحاضر .
وبحسب أمين فان الفحم مازال مادة مهمة لتأمين مصادر الطاقة المنزلية ، اضافة الى استخدامه بصورة واسعة في المطاعم والفنادق .
وفي أسواق العراق تجد أيضا الفحم الصناعي الذي ينافس الفحم التقليدي .
حفر الحرق
وفي جنوب مدينة بغداد ، في البرية الواقعة جنوبي مدينة الحصوة ، يدلنا ابو حاتم الفحام على عشرات الحفر التي يطلق عليها اسم ( الجفر ) ، التي يعمل حولها الكثير من الشباب والصبيان مقابل اجر زهيد ، يبدأ عملهم منذ ساعات الصباح الأولى ، بجمع قطع الأخشاب
في الحفر حيث تحرق .
يقول أبو حاتم : نغطي الحفر بالتراب وعلب الصفيح حيث ننتظر اكتمال الحرق لنهار او نهارين اعتمادا على الجو ومقدار الرطوبة في الأخشاب . بعدها يستخرج الفحم ويعبأ في أكياس حيث يسوق إلى المتاجر والمستهلكين .
ويرى الباحث البيئي رحيم حسن ان هذه الصناعة الخطرة على العاملين فيها والمنطقة المجاورة يجب ان يصاحبها استخدام وسائل حماية العين والأنف والجهاز التنفسي .
ويتابع: لا يتوفر في العراق معامل حديثة لإنتاج الفحم التي لو انتشرت لسد النقص في السوق المحلي من هذه المادة إضافة إلى توفيرها الآلاف من فرص العمل ، ومساهمتها في المحافظة على البيئة لانها ستتوفر على آليات عمل ومعدات تساهم في التقليل من الآثار السلبية على البيئة الناتجة عن صناعة الفحم .
التعليقات