أثار سقوط نظام زين العابدين بن علي في الرابع عشر من يناير (كانون الثاني) 2011، ابتهاج جل المثقفين التونسيين الناشطين في كل المجالات، واعتقدوا أن كل القيود والموانع والمحرمات انجلت لتكون حريتهم بلا حدود، وبلا شروط. لذلك نزلوا الى الشوارع بأعداد وفيرة ليعبروا عن فرحتهم العارمة ب"ثورة الياسمين"، أو "ثورة الكرامة والحرية" رافعين شعار: ”لا خوف بعد اليوم". غير أن فرحتم لم تدم طويلا. فسرعان ما هوت أحلامهم وامالهم خصوصا بعد أن قام سلفيّون متطرفون بالهجوم على معرض للفن التشكيلي، وتدمير اللوحات التي كانت معروضة.

كما قام هؤلاء بالاعتداء بالعنف الشديد على مجموعة من الشبان والشابات أمام قاعة "أفريكا" بقلب العاصمة. وراحت التهديدات ب"تكميم أفواه، وشل أيدي من يعادون الدين، وينشرون الفسق والفساد في البلاد" تتهاطل بغزارة.

ففي أقصى الجنوب التونسي، على الحدود مع ليبيا، رفض "أمير سلفي" التحدث إلى المخرجة المعروفة سلمى بكار التي كانت تعد فيلما وثائقيا عن اللاجئين الليبيين، وأمر أنصاره الهائجين بطردها فورا.

وأما وزير الثقاقة والمحافظة على التراث انذاك السيد عز الدين باش شاوش فقد اوقف أشغال بناء "مدينة الثقافة"، مجهزا بذلك على مشروع مهم للغاية كان بإمكانه ان يكون فضاء رائعا لكل أشكال الإبداع والفن.

وكانت حجته في اتخاذ هذا القرار ان المشروع المذكور "ستاليني"! ولم يفهم احد مقصده من هذه الحجة، غير ان الاعتراض عليه لم يتم. ففي زمن "ارحل" كان كل فعل شنيع قد اصبح جائزا و"ثوريا".

في عهد حكومة الترويكا التي ترأستها حركة النهضة الإسلامية، ازدادت الاوضاع الثقافية سوءا. فقد كان على رأس وزارة الثقافة والمحافظة على التراث السيد المهدي المبروك المقرب من الحركة المذكورة، والذي بادر بتخفيض ميزانية الوزارة لصالح وزارة الشؤون الدينية. واغضب هذا الاجراء جل المثقفين فانطلقوا ينددون به عبر المنابر الاعلامية من دون أن يولي السيد الوزير أي آهتمام بالامر. بل انه سكت عن البعض من أعمال العنف التي ارتكبتها مجموعات سلفية متطرفة في مناطق مختلفة من البلاد.

وخلال فترة حكومة الترويكا ايضا، التي امتدت الى سنتين، فقدت تونس العديد من الفنانين والمبدعين جراء جلطات دماغية وقلبية قد يكون سببها الازمات النفسية التي كانوا يعانون منها جراء الخيبات والإحباطات التي منيوا بها!

بعد انتخابات خريف 2014، التي أفضت الى انتصار حزب نداء تونس الوسطي الذي يتزعمه السيد الباجي قايد السبسي، استعاد المثقفون التونسيون أملهم في أن تشهد الثقافة التونسية انطلاقة حقيقية وحيوية توفر مناخ الحرية، والظروف المادية والمعنوية التي يحتاجها الفنانون والمبدعون في أعمالهم ونشاطاتهم.

وحال تعيينها على رأس وزارة الثقافة، ابدت السيدة لطيفة لخضر، وهي استاذة في مادة التاريخ بالجامعة التونسية معروفة بميولها التقدمية، استعدادها لإصلاح ما فسد. لذلك عينت الشاعر المعروف ادم فتحي مستشارا لها لينكب مع فريق عمل على تهيئة مشروع يهدف الى تحسين الاوضاع المادية للمثقفين والمبدعين الذين يعيشون حياة صعبة، بل مزرية، ولا يتمتعون بأي تغطية صحية. غير ان الخطأ الذي ارتكبته الوزيرة لخضر هو أنها استعانت بزملائها الجامعيين لترأس لجان الجوائز، والإشراف على الندوات الفكرية والثقافية.

لذلك شعر المثقفون والمبدعون بمرارة الإقصاء خصوصا بعد ان عاينوا ان الجامعيين لا يخدمون سوى مصالحهم الخاصة ومصالح المقربين منهم. كما انها تركت "جيش البيروقراطيين" الذي يتحكم في وزارة الثقافة ومؤسساتها يواصل عمله بنفس النسق القديم، معرقلا النشاطات الثقافية، ومقيما حواجز يصعب اجتيازها امام اصحاب المبادرات التي تهدف الى بعث الحيوية التي تحتاجها الحياة الثقافية المتسمة منذ عقود طويلة بالركود والجمود والرتابة.

واصبحت وكالة التراث التي كانت تتمتع بميزانية ضخمة في عهد بن علي أول المتضررين من العمل البيروقراطي. لذا اضطرت هذه الوكالة الى صرف موظفيها في بداية العام الحالي بسبب انعدام وسائلها المادية. ولعل الوقت لم يسمح للوزيرة لخضر بتحقيق الانجازات التي وعدت بها مثل ترميم العديد من قاعات السينما في العاصمة وفي المدن الكبيرة، والتي تشكو من الاهمال ومن النقص الفادح في التجهيزات التقنية.

كما انها غادرت الوزارة من دون ان يستكمل الفريق الذي يشرف عليه الشاعر ادم فتحي المشروع الذي كان جل المثقفين والفنانين ينتظرونه بفارغ صبر.

واخيرا عينت على رأس وزارة الثقافة والمحافظة على التراث السيدة سنيا مبارك، وهي خريجة كلية الحقوق ومغنية معروفة. غير ان تعيينها اثار استياء قسم مهم من المثقفين الذين يعتقدون انها لا تتمتع بالخبرة التي تتيح لها معالجة جيدة وحكيمة للملفات الكثيرة والثقيلة المتراكمة امامها.

والبعض من هؤلاء يرون أن الوزيرة مبارك سوف تولي اهتماما أكثر للموسيقى على حساب المجالات الأخرى. وقد تبدو مثل هذه الاحكام متسرعة. لذا من الافضل أن يكون الحكم على أدائها انطلاقا مما ستقوم بها مستقبلا وليس اعتمادا على فرضيات قد تكون خاطئة، وربما مغرضة.