تشير الإحصاءات في العراق إلى ارتفاع حالات الطلاق بنسب مخيفة. ويرجع المتخصصون أسبابه إلى الفقر وعدم تحمل المسؤولية والتأثر بأبطال وبطلات المسلسلات المدبلجة.
عبد الجبار العتابي من بغداد: في الدخول إلى أروقة محاكم الأحوال الشخصية في العراق، لا تلفت الانتباه سوى مشاكل الطلاق، التي تظهر واضحة على ملامح الناس هناك، فأعداد الدعاوى المقامة من أجل الانفصال تصيب المرء بالذهول.
أصبحت قضايا الطلاق في المجتمع العراقي أكثر ما يلفت الانتباه، وباتت تشغل الناس كثيرًا، وتثير المشاكل بين الأسر، وتعلن البغضاء بين القبائل، وقد ارتفعت النسبة حتى وصلت إلى حالة مرعبة، يصفها الباحثون الاجتماعيون بأنها تهدد النسيج الاجتماعي، وتنذر بتفكك الروابط الاجتماعية.
وتختلف الأسباب في ذلك، فهي ما بين عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وهذه النسبة راحت تزداد شهرًا بعد شهر، وعامًا بعد آخر، لاسيما في السنوات الأخيرة، ويتفق أهل الاختصاص على أن السبب الاقتصادي يتصدر الأسباب الأولى للطلاق.
إذ إن التقارير تفيد أن نسبة الفقر في العراق تبلغ 23%، أي إن ربع الشعب العراقي دون مستوى خط الفقر، وأن نسبة البطالة هي الأعلى بين دول المنطقة، ناهيك عن الأسباب الأخرى، التي يتسبب فيها ضعف الوازع الديني وقلة الوعي، وقد أصبحت القنوات الفضائية مصدر حرب ضروس، بسبب ما تقدمه المسلسلات المدبلجة خاصة من موضوعات عن الخيانة الزوجية والعلاقات خارج الزواج، التي أصبحت تكثر في المجتمع العراقي.
أرقام مخيفة
فقد أفادت الأرقام الواردة من المحاكم أن حالات الطلاق سجّلت أرقامًا قياسية تتصدرها بغداد/الكرخ، فمحافظة الناصرية، فالنجف في المرتبة الثالثة. وأفاد تقرير من إحدى محاكم منطقة الكرادة في بغداد بأن عدد حالات الطلاق فيها يتراوح بين (20 – 50) حالة في اليوم.
ووفقًا لمجلس القضاء الأعلى، فإن عدد دعاوى الطلاق في العام 2004 كان (28689) ارتفع في عام 2005 إلى (33348)، ووصل في عام 2006 إلى (36627)، ومن ثم قفز العدد&في عام 2012 ليصل في عدد من المحاكم العراقية إلى ما يشبه الكارثة، (50) حالة طلاق مقابل (100) حالة زواج.. أي إن كل مليوني حالة زواج يقابلها مليون حالة طلاق!!، وفي عام 2013 وصل العدد&إلى أكثر من 160 ألف حالة طلاق.
تعددت الأسباب
في محكمة الأحوال الشخصية في بغداد، يضج المكان خارج غرف القضاة بالمدعين والمدعين عليهم، شابات وشباب في عمر الورود، يرافقهم بعض من أهاليهم، في المشهد ثمة حواجز من البغضاء تفصل بينهم، وما أن يقف الزوجان أمام القاضي بهدوء يحسدان عليه حتى يبادرهما بالقول: (قفا أمام بعضكما البعض، ولينظر أحدكما في عيني الآخر)، وما أن يفعلا ذلك حتى يقول للزوج (قل لها أنتِ طالق)، فيقول الزوج الكلمة، وعينه بعينها، ثم يمضي كل منهما بعيدًا عن الآخر.
سالم حسن، موظف حكومي، قال لـ"إيلاف": رفعت دعوى طلاق، لأن زوجتي تركت البيت، وذهبت إلى بيت أهلها من دون سبب، فهي تريد أن أسجل البيت والسيارة باسمها، وأنا أرفض، لأنني لا أعرف الأسباب التي دعتها إلى هذا الطلب، حاولت كثيرًا معها ومع أهلها، الذين كانوا يقفون معها ضدي، فقررت الطلاق، بعدما باءت محاولاتي بالفشل.
وأضاف أن "الباحث الاجتماعي لا دور له، فهو مجرد (إسقاط فرض) كما يقال، فما أن سمع مني وسمع منها، حتى أحالنا إلى القاضي لاستكمال إجراءات الطلاق". وأوضح "أعتقد أنهم حريصون على إعادة العلاقة بين الزوجين، كما هو عمل الباحث الاجتماعي، الذي يحاول أن يقرب وجهات النظر أو يقول للمخطئ: أنت مخطئ، وعليك أن تعيد النظر في حساباتك، بل إنني لم أسمع منه حتى (أبغض الحلال عند الله الطلاق)".
فبركة تهمة إرهاب
السيدة أم زهراء قالت لـ"إيلاف" إنها سبب طلاق ابنتها "زوّجتها له، لأن أهله أناس خيّرون، وبعد شهرين من الزواج راح يضربها، وحين نقوم بإرجاعها وننصحها وننصحه يعاود ضربها بشدة، وفي المرة الأخيرة قام بقلع أظافرها، وحين تأتي إلينا باكية شاكية، يأتي وراءها ليهددنا بالقتل، ويهدد ابني الوحيد بأن يتهمه بأنه إرهابي أو داعشي، وهو أمر لم نصبر عليه.
وأضافت "أنا أتحمّل الخطأ في تزويجها وهي بنت 18 سنة، أقنعتها بالزواج منه، لأن أهله طيبون، والظاهر أن (النار لا تخلف إلا الرماد). أما الشاب أمجد حميد فكان وضعه مختلفًا جدًا، فقد طلبت زوجته الطلاق لأنه عقيم. قال: "أحببتها وتزوجتها، وهي عندي منذ ستة أعوام، ولكن إرادة الله قضت أننا لم نرزق بطفل، وقد عملنا الكثير، وراجعنا العديد من الأطباء في الداخل والخارج، ولكن من دون فائدة، وهذا ما دعا أهل زوجتي إلى طلب الطلاق بحجة أنها تريد أطفالًا".
وتابع "حاولت كثيرًا أن أثني أم زوجتي من أجل عدم طلب الطلاق، لكنها أصرّت، رغم أن زوجتي رافضة للطلاق، ولكن ليس بيدها شيء، فالأمر كله بيد أمها، بكيت كثيرًا، وأرسلت الناس إلى أهلها، ولكن بلا فائدة، وها أنا ذا في أسوأ حال".
المسلسلات المدبلجة
من جانبه، أكد محمد عبد الرضا خلف، أستاذ جامعي، أن ضعف الوازع الديني والتحلل من القيم والمبادئ والأعراف هو السبب الأهم وراء حالات الطلاق، وقال "أصبح شباب الألفية الثالثة يتأثرون كثيرًا بالثقافة الغربية ولكن بشكل خاطئ، ويطبقونها على أرض الواقع العراقي تطبيقًا حرفيًا، فضلًا عن التأثر بما تطرحه المسلسلات المدبلجة من سلوكيات خاطئة، وهذا ما لا يحتمله المجتمع العراقي، فلو كان الزوجان يعرفان تمام المعرفة حدود الله ومعنى وقيمة الزواج لما فكرا نهائيًا في الطلاق، ولاحتويا مشاكلهما.
وأضاف لـ"إيلاف": هناك أيضًا تزويج الفتى أو الفتاة بدون رغبتهما الكلية، وهذا معناه بغياب الوازع الديني نفور أحدهما، لأن إرادته غابت عند إبرام العقد، فتكبر أي مشكلة بسيطة بينهما، ومن ثم تكون طريقهما إلى الطلاق سالكة.
وبيّن أن "مع كل هذا وغيره، فالأسرة تؤدي دورًا أساسيًا في ردع المشاكل، فالتدخل الإيجابي يمنع وقوع الطلاق، فيما التدخل السلبي يؤدي إلى الطلاق. وللأسف فإن معظم التدخلات سلبية، خاصة من جانب أهل الزوجة، الذين يرون ابنتهم مظلومة، وعليها أن تأخذ حقوقها كاملة وتنفيذ طلباتها تامة.
&ظاهرة
فقد أكد المحامي شاكر السلامي أن الطلاق في العراق وصل إلى مرحلة يجب الوقوف عندها، وقال إن تزايد حالات الطلاق وصل إلى درجة باتت تهدد بنية المجتمع، والأرقام الصادرة من مجلس القضاء الأعلى تدل دلالة كبيرة على أن الخطر محدق، وإلا ما معنى أن يكون عدد حالات الطلاق مثلًا لعام 2004 أكثر من 28 ألفًا، ويرتفع عام 2013 ليصل إلى أكثر من 160 ألف حالة طلاق".
وأضاف أن "هذا يعني أن هذه الحالات تنتج أعدادًا كبيرة من المطلقات والمطلقين، وهؤلاء لهم تأثير سلبي على المجتمع، وهذا مؤشر يدل على تفكك أواصر المجتمع، ولا أبالغ إذا ما قلت إن قلة الوعي الاجتماعي والديني هي السبب على الرغم من اعترافي أن المجتمع العراقي واجه صعوبات وهزات عنيفة، أثرت سلبًا على الفرد العراقي، ولكن أن يكون هذا العدد الكبير من الطلاقات فهو أمر في غاية الخطورة، ويستدعي وقفة جدية من المجتمع نفسه.
صغر عمر الأزواج
من جهته، يرى المحامي محمد الساعدي أن "انتشار حالة الطلاق في مجتمعنا تتسبب به عوامل عدة، وتختلف معظم الحالات بسبب الرجال وبسبب النساء، وأسباب أخرى كتدخل الأهل وما شابه ذلك، ولا يمكن حصرها في موضوع أو سبب واحد كما هو معروف.
وأضاف أن "من بين أسباب الطلاق اللافتة للنظر في السنوات الأخيرة هو صغر عمر الأزواج، سواء الإناث أو الذكور، لعدم الالتزام وقلة الإحساس بالمسؤولية، فضلًا عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والخلافات العائلية وتدخل الأهل، فالمجتمع الأسري يعاني بعد عام 2003 من تدهور رهيب يتمثل في ازدياد حالات الطلاق بسبب الزواج المبكر بعدما تبدلت الكثير من المفاهيم الاجتماعية، حيث إن أكثر حالات الطلاق هي لمن هم في أعمار دون الـ25 سنة، وهناك من لم يبلغوا الـ 20 عامًا، حتى وصلت بعض الحالات إلى&سن السادسة عشرة، فالكبت يولّد ضغوطات نفسية، سرعان ما تؤدي إلى زيجات سريعة يغيب عنها الوعي والإدراك، فينتبه الزوج بعد أن يشبع غريزته أنه أصبح في عالم آخر لا يستطيع منه الإيفاء بمتطلبات الحياة، وقد كان يعتقد أن الحياة الزوجية عبارة عن جنس فقط.
استسهال
الدكتور قاسم حسين صالح، رئيس الجمعية النفسية العراقية، أشار إلى أن الفقر والبطالة سببان جوهريان في الطلاق. وقال إن للشاعر محمد مهدي الجواهري بيت شعر جميلاً، يقول: (أبا الأحرار لا تعجب فأنّا نعيش في البلد العجيب). فمن عجائب الزمن الديمقراطي أن الطلاق في المجتمع العراقي المسلم والعشائري صار ظاهرة توازي الإرهاب، بحسب وصف القضاة، والعجب أن الزمن الدكتاتوري الذي أضاف لأسباب الطلاق التقليدية ما نجم من حروبه الكارثية (حالات الأسر الطويل، الإعاقة..)، والهجرة هربًا من جمهورية الخوف.. فإن نسب الطلاق شهدت تزايدًا غير مسبوق في الزمن الديمقراطي، مع أنه يفترض أن تكون أقلّ.
وأضاف خلال حديثه لـ"إيلاف": "إذا كان الزواج المبكر أحد الأسباب الرئيسة للطلاق، فإنه دخل عليه في زمن الديمقراطية متغير جديد هو الفضائيات، فجيل الشباب في العراق يختلفون عن شباب العالم بكونهم ولدوا ونشأوا في حروب، وفهموا الحرية بالطريقة التي تقدمها المسلسلات الأجنبية، التي تطرح الطلاق، كما لو كان حالة عادية. ولأن الزمن الديمقراطي لم يقدم إلى جيل الشباب النموذج الأخلاقي الراقي فإنهم استسهلوه.. يؤكد هذا تقرير يفيد بحصول عشرة آلاف مطلقة من مواليد عام 1995 في عامين، وآخر يفيد بأن نسبة الطلاق في الفئة العمرية دون العشرين بلغت 30% من حالات الزواج المسجلة في مدينة عراقية محافظة.
وأكد أن "هناك علّة أخرى تزعج، وهي أن السياسي العراقي مولع بحب السلطة والثروة والنساء.. إذ بلغني أن سياسيين كبارًا يحتلون مواقع في مؤسسات الدولة عمدوا إلى إجبار إو إغراء موظفات صغيرات على الزواج بالسّر، وإنهم ما أن قضوا وطرهم منهنّ أو كشف سرّهم طلقوهن في الحال!".
أبغض الحلال
أما رجل الدين الشيخ علي خلف فقد أكد لـ"إيلاف" على ضرورة تثقيف المجتمع، وقال "الدين أباح الطلاق بقوله تعالى (إن أبغض الحلال عند الله الطلاق) ولكن بشروط من أهمها عدم انسجام الزوجين واستحالة استمرار الحياة الزوجية، ومن المؤسف أن مسألة عدم الانسجام أصبحت عامة، فكل اثنين يريدان الانفصال، تكون الحجة هذه، من دون النظر إلى كلمة (أبغض) ومن دون النظر إلى ما تسببه الطلاقات الكثيرة من تحطيم للأواصر الاجتماعية وتدمير لعلاقات المحبة والاحترام وإلى مستقبل أبنائهما الذين سيعيشون بعيدًا عن أحدهما، وما النسبة الكبيرة للطلاق التي نسمع عنها ونقرأ إلا صورة بشعة لقلة الوعي وعدم تأمل قول الله تعالى، فالزواج مودة ورحمة وسكن وتأسيس أسرة ومجتمع متراحم قوي نظيف".
وأضاف "أنا أدعو إلى ضرورة تثقيف المجتمع وفئة الشباب تحديدًا، ومن كلا الجنسين بأهمية الأسرة، وكيفية الحفاظ عليها، وكيف يتعامل الزوج مع زوجته، وكيف ترعى الزوجة زوجها، ونشر توعية حول تربية الأطفال، لبناء لبنة مجتمع شاب وفعال ذي أسس رصينة".
حقوق الإنسان
وزارة حقوق الإنسان لخصت أسباب ارتفاع حالات الطلاق في المحافظات العراقية من خلال حديث كامل أمين المتحدث باسم الوزارة لـ إيلاف: "أهم أسباب ارتفاع حالات الطلاق هي الأمية والسكن المشترك مع أهل الزوج والفقر والعنف، فضلًا عن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تزيد من حالات الانفصال في مجتمعنا".
وأضاف أن "المؤشرات الأولية ونسب حالات الطلاق في السنوات السابقة، رجحت زيادة كبيرة في حالات الطلاق، وهذا ينعكس بشكل سلبي على المجتمع الأسري في البلد".
&
&
التعليقات