يدخل العراق العام 2015 مثقلًا بإرث ثقيل من الخيبات والأزمات، ليجد نفسه بمواجهة تحديات خطيرة عليه تجاوزها، ليكون كيانًا قويًا متماسكًا، ويبعد عنه شبح التقسيم.


لندن: ورثت السلطة العراقية الجديدة تركة ثقيلة من الأزمات التي هددت البلاد باقتتال داخلي، وافلاس مالي بخزينة خاوية بلا ميزانية عامة للبلاد، وعزلة عربية ودولية خانقة، وتحد ارهابي استطاع أن يهزم جيش البلاد الضخم الذي انهار امام ضربات تنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، الذي نجح في احتلال ثلث مساحة العراق.
&
خطر التقسيم قائم
&
يشكل الإرهاب اخطر التحديات التي يواجهها العراق في 2015. فقد سيطر "داعش" خلال اسابيع قليلة على 30 بالمئة من مساحة البلاد بالترافق مع انهيارات مشينة للقوات الأمنية العراقية التي تركت المدن والبلدات بسكانها نهبًا للتنظيم وسطوته الوحشية.
&
ووصل تهديد التنظيم إلى بغداد، ووقفت المرجعية الشيعية تنادي اتباعها للتطوع لقتال "داعش" الهادف إلى الوصول إلى مراقدهم المقدسة، ما دفع بمئات الالاف إلى التطوع وحمل السلاح. وبمرور الوقت بدأت القوات العراقية ومعها المتطوعون باستعادة قواها وتحقيق مكاسب على حساب التنظيم وطرده من مناطق عدة.
&
لكن هذه الانتصارات ولدت مشكلات معقدة لا بد أن تنتقل تداعياتها إلى العام الجديد، لتشكل معضلة اخرى اخطر من "داعش".
&
فقد اندفع المقاتلون الشيعة إلى مناطق سنية وأخرى متنازع عليها كان التنظيم سيطر عليها. لكنهم وبعد استعادتها بدأوا بعمليات تهجير طالت سكانها السنة في عمليات تغيير سكاني مثيرة، كما فرضوا سيطرتهم على مناطق يقول الاكراد انها من حصتهم نظرا لأن غالبية سكانها من الاكراد، الامر الذي بلور مواجهات وان لم تتفجر قتالا في الوقت الراهن نظرًا لوجود عدو مشترك يتربص بالجميع. لكن بعد القضاء على هذا العدو، ثمة مخاوف حقيقية من تفجر قتال بين الاطراف الثلاثة، ما يضع البلاد على حافة خطر التقسيم.
&
المصالحة معقدة
&
التطورات الاخيرة في العراق عقدت عملية تحقيق المصالحة على الرغم من تجدد الجهود للوصول اليها. فقد اججت الاحداث الدامية التي يشهدها العراق منذ ستة أشهر مشاعر الخوف وعدم الثقة بين الفرقاء العراقيين، مع تمترس كل منهم خلف طرف دولي شاهرًا سلاحه بوجه الاخر تحت شعار محاربة الارهاب.
&
ففي مواجهة المسلحين الشيعة المدعومين ايرانيًا، بدأت العشائر السنية تتسلح بدعم اميركي تحت شعار مواجهة "داعش"، لكن المخاوف تتأجج منذ الآن لمرحلة ما بعد التنظيم، وفي ما اذا كان هذا السلاح سيفجر ثأرات الممارسات الماضية لكل الاطراف، وهو امر يتطلب وجود سلطة قوية تفرض ارادتها ولو بالقوة على الجميع.
&
وما يزيد الأمور تعقيدًا هي الدعوات التي بدأت تنطلق من مناطق عراقية لإنشاء اقاليم جديدة، شيعية في جنوب العراق، وسنية في غربه وشماله.
&
وتبقى أمام مجلس النواب العراقي مهمة صعبة لتهيئة الأجواء اللازمة لتحقيق المصالحة من خلال تشريعه في 2015 للقوانين الممهدة لها، مثل قانون العفو العام وتصفية قضايا اجتثاث البعث واصدار قانون تشكيل الحرس الوطني ليكون جامعا لكل الطوائف والقوميات تحت سلطة واحدة هي سلطة الدولة التي تمنع التشرذم والانفلات.
&
لكن المخاوف تبرز هنا من امكانية تسويف القوى المنضوية تحت قبة البرلمان واختلاف مواقفها مهمات تشريع هذه القوانين، وبالتالي وضع العصي في عجلة المصالحة لإعاقة وصولها إلى هدفها مثلما حصل للكثير من القوانين المهمة التي ما زالت محفوظة في رفوف البرلمان العالية منذ سنوات عدة.
&
الفساد مستشرٍ
&
يشكل الفساد الوجه الثاني للارهاب، نظرًا لاضراره التي يلحقها بالبلاد ولسطوته على مقدراتها وتلاعبه بمصيرها الأمر الذي ادخل البلاد مع عوامل أخرى في أزمة مالية خطيرة ستعاني منها في احسن الظروف حتى 2016 كما اقر بذلك رئيس الوزراء حيدر العبادي.
&
فقد شهد 2014 هدر مليارات دولارات على 6 الآف مشروع وهمي في عهد الحكومة السابقة، كما تم انفاق مرتبات بمليارات أخرى على موظفين وهميين في القوات الأمنية تجاوز عددهم خمسين الفًا.
&
وازاء تشريع العبادي لسيفه في مواجهة الفساد في مؤسسات الدولة بشكل غير مسبوق، فإن حماة الفساد بدأوا بالمقابل في اثارة المشاكل، وصلت إلى حد التهديد باغتياله. لكن مع اعلانه اكثر من مرة اصراره على مواصلة مسيرته ضد الفساد وان كلفه ذلك حياته.
&
فإن البلاد تظل بحاجة إلى معارك غير سهلة واجراءات صارمة للتخلص من هذا الفساد.
&
سير على الجمر
&
وشكل الانخفاض غير المسبوق لاسعار النفط تحديًا كبيرًا للسلطات العراقية التي تجد نفسها عاجزة عن الايفاء بالتزاماتها الخارجية والداخلية خلال 2015.
&
وكان اول التأثيرات السلبية تقليص حجم الميزانية العامة للعام 2015، من 150 مليار دولار إلى 105 مليارات دولارات بعجز مقداره 20 مليار دولار، الامر الذي دفع إلى تقليص النفقات ووقف التعيينات في الوظائف الجديدة وتأجيل مشاريع خدمية ضرورية عدة اضافة إلى فرض ضرائب جديدة ستتشكل عبئا على المواطنين ومدخولاتهم.
&
واذا كانت هذه الاجراءات ضرورية لعبور الأزمة المالية الخطيرة التي تواجهها البلاد حاليا نتيجة العمليات العسكرية وتدهور اسعار النفط وسيطرة داعش على خط التصدير الرئيس للنفط، فإن المخاوف تأتي من أن تؤدي الاوضاع الاقتصادية الصعبة هذه والاجراءات التي مست حياة المواطنين بشكل مباشر إلى تأجيج احتجاجات شعبية ضد السلطات بالشكل الذي سيعيق تصديها لمشكلاتها الرئيسة والانشغال بتهدئة الشارع وارضائه وبعكسه فإن الصدام بين الطرفين سيكون حتميًا في بلد ينوء تحت ثقل العديد من المشاكل.&
&
لذلك، فإن السلطات العراقية تجد نفسها خلال 2015 تسير على الجمر كما يقولون وحيث عليها أن تتحسس مواقع قدميها بكل حذر والسير بتؤدة حتى عبور هذه الازمة بأقل الخسائر الممكنة.
&
فضيحة سقوط الموصل&
&
يواجه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي امتحانًا لمصداقيته في التحقيق في النكسة الخطيرة التي لحقت بالبلاد نتيجة احتلال مدينة الموصل ثاني اكبر المدن العراقية بعد العاصمة وخيانة قادتها من الضباط الكبار وهروبهم امام تقدم "داعش".
&
وما يزيد الأمر خطورة هو أن التحقيق يتجه نحو القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء سابقًا نوري المالكي، زعيم حزب الدعوة الذي ينتمي اليه العبادي. ومع ما يشكله هذا من تعقيدات جمة، فإن مهمة التحقيق ستكون صعبة، لذلك لم يستطع رئيس البرلمان سليم الجبوري من تحديد موعد للانتهاء من التحقيق واكتفى بالقول إنه سيستغرق وقتًا، فالعديد من القادة هربوا من العراق او غادروه بذرائع صحية وقد لا يعودون مطلقًا.
&
ومع ارتباط القادة العسكريين بهذا الحزب او ذاك، ولأن حقائق القضية قد تضيع وسط تبادل الاتهامات ومراكز القوى المتنفذة، فأن آمال العراقيين تتلاشى في معرفة خبايا سقوط مدينة الموصل بيد "داعش"، وحيث يرغب كثيرون في تحديد حجم مسؤولية كبار قادة الدولة عنها وعلى رأسهم المالكي وحيث يبدو هؤلاء محاطين بأسوار من الحصانة من شأنها أن تجعل التحقيق مقتصرًا على بعض القادة الأمنيين والعسكريين دون السياسيين.&
&
من دون سياسيين
&
أكد ذلك عضو اللجنة المكلّفة بالتحقيق في سقوط المدينة نايف الشمري بقوله إن اللجنة لم تتطرق إلى أسماء مسؤولين وسياسيين في اجتماعاتها أو خلال التحقيق مع معاون رئيس أركان الجيش السابق، عبود قنبر، وقائد القوات البرية السابق، علي غيدان، وقائد قوات الشرطة الاتحادية السابق، محسن الكعبي، موضحًا انه في حال ذكر أسماء سياسيين أو مسؤولين خلال التحقيق فسيتم استدعاؤهم واستجوابهم لمعرفة أسباب سقوط محافظة نينوى ومركزها الموصل.&
&
ولذلك فإن العديد من المراقبين السياسيين بدأوا يستبقون نتائج التحقيق واهمية ما سيصل اليه بالقول إن هناك اتفاقا يتبلور حول نتيجة التحقيق في سقوط الموصل، سيكون على الشكل الآتي: اتفاق سياسي بين الكبار يقضي بعدم إحراج العبادي في مساءلة المالكي وعدم استفزاز المالكي بالإدانة خوفًا من نبش الملفات القديمة.
&
تحديات الانفتاح
&
في مواجهة العزلة العربية والاقليمية التي عانى منها العراق خلال السنوات الماضية من عهد المالكي، يواجه العبادي تحديًا كبيرًا لتفتيت هذه العزلة وتدشين مرحلة انفتاح تمد الجسور نحو المحيط العربي والاسلامي ثم الدولي.
&
فالعراق يجد نفسه امام التحديات التي يواجهها بأمس الحاجة لترميم الجسور مع الخارج والانتقال من مرحلة الازمات إلى التعاون المثمر، المفضي إلى تصفير هذه الازمات. ويجب الاقرار هنا بأن العبادي نجح خلال 120 يوما مضت على رئاسته للحكومة في تحقيق اختراق واضح على هذا الطريق. فقد زار الاردن والكويت والامارات وتركيا وايران، وتبادل وعودا مع المسؤولين في السعودية وقطر بانهاء عهد الشكوك في العلاقات واعادة الثقة بين العراق والبلدين اللذين طالما وجه اليهما اتهامات بدعم الارهاب على اراضيه.
&
بالنسة لقطر، زارها مطلع الشهر الحالي رئيس البرلمان سليم الجبوري وقبله وزير الداخلية محمد الغبان، ووعدت العراق بفتح صفحة جديدة من التعاون البناء في مختلف المجالات وخاصة الامنية منها، واكدت انها تفتح قلبها قبل ابوابها للمسؤولين العراقيين.
&
واتفق البلدان على تشكيل لجنة للتعاون الامني المشترك والبدء بمرحلة تعاون مبنية على العمل المشترك والمشاركة الفعالة في مكافحة الارهاب، ما يشير إلى قرب طي صفحة الخلافات بين البلدين.
&
ضغط إيراني
&
واذا كانت الازمة مع قطر بدأت بالتفتت، فأنها مع السعودية تواجه صعوبات نتيجة مواقف محلية واقليمية تجاه الدور السعودي في المنطقة، ووقوفه ضد توسع النفوذ الايراني فيها، وحيث يرتبط العراق بعلاقات مفتوحة مع جاره الشرقي دفعت به إلى التدخل في اكثر من مرفق عراقي حيوي، ما يثير مخاوف عربية ودولية من التأثير الايراني على العراق.
&
لكن اشارات خرجت من الرياض وبغداد أخيرًا، تؤكد وجود رغبة لدى البلدين لتجاوز المرحلة السابقة، ووعد وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل بإعادة فتح السفارة السعودية في العاصمة العراقية قريبًا، فيما قام الرئيس العراقي فؤاد معصوم بزيارة إلى الرياض، بحث خلالها مع الملك عبد الله بن عبد العزيز وضع اسس لعلاقات سياسية وامنية لمواجهة الارهاب وتكثيف عمليات تبادل المعلومات في هذا المجال.
&
وقال الفيصل إن هذه الزيارة أولى الخطوات لعودة العلاقات الطبيعية وفاتحة خير تليها لقاءات بين المسؤولين تثمر عن تطوير العلاقات بين البلدين.
&
لكن بسبب العلاقات المتأزمة بين الرياض وطهران، فإن مراقبين يتخوفون من ضغط ايراني على العراق لتأجيل انفتاحه على السعودية، وهو ما يعززه عدم قيام العبادي بزيارة الرياض إلى الآن، وعدم وفاء السعودية بوعدها بعد لفتح سفارتها في بغداد.