تتوطد العلاقات السعودية الصينية يومًا بعد يوم، في ما يبدو رسالة من الرياض إلى واشنطن، مفادها أن البديل متوفر دائمًا، خصوصًا بعد التردد الكبير لواشنطن في سوريا، والتسليم الكبير لإيران في اتفاق فيينا النووي.
&
قال مراقبون إن تراجع الادارة الاميركية عن توجيه ضربة عسكرية إلى بشار الأسد بعد أن عبر "الخط الأحمر" الذي رسمه الرئيس باراك اوباما باستخدامه الأسلحة الكيماوية في ضواحي دمشق في آب (أغسطس) 2013، ثم الاتفاق النووي مع ايران في تموز (يوليو) الماضي، أحدثا صدعًا كبيرًا في العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة.
&
ليست بديلًا
وفي حين أن الحديث عن شرخ خطير في العلاقة لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد إزاء علاقة عمرها 70 عامًا، قامت على اساس استراتيجي من المنافع المتبادلة، فإن اصواتًا ارتفعت في السعودية داعية إلى تنويع علاقات المملكة الدولية، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة كحليف استراتيجي وشريك تجاري... وهنا تأتي الصين.
رغم أن الصين لا يمكنها أن تضاهي الولايات المتحدة بتاريخ وجودها العسكري في الشرق الأوسط، فإن هناك اتفاقًا واسعًا في الأوساط السعودية على أنه من الضروري، في وقت تشهد المنطقة ازمات لا سابق لها، أن تُبقي المملكة خياراتها مفتوحة، وأن تعزز علاقاتها مع أكبر عدد ممكن من القوى الاقليمية والدولية. وطبقًا لهذه الحسابات، فإن ايجابيات تمتين العلاقة مع الصين أكبر من سلبياتها.
وأقامت السعودية والصين علاقات دبلوماسية بينهما في عام 1990، حين بدأت الصين انفتاحها الاقتصادي. ورغم تطور العلاقات ببطء في البداية، فإن هناك اتفاقًا بين المسؤولين ورجال الاعمال والمحللين السعوديين، ليس على ضرورة الحفاظ على العلاقات مع الصين فحسب، بل وتوسيعها ايضًا.
&
دور النفط
في تموز (يوليو) الماضي، بلغت صادرات السعودية النفطية إلى الصين 993 ألف برميل في اليوم، بزيادة 12 في المئة على صادراتها في حزيران (يونيو). وحافظت السعودية على موقعها في صدارة الدول المصدرة للنفط إلى الصين نحو عشر سنوات متواصلة، باستثناء فترة وجيزة في ايار (مايو) حين تقدمت عليها روسيا.
وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن مشتريات الصين النفطية من الشرق الأوسط ستتضاعف مرتين تقريبًا بحلول 2035. ومع تناقص الطلب على النفط السعودي في الولايات المتحدة بسبب امدادات النفط الصخري المنتج محليًا، ازدادت جاذبية السوق الآسيوية. وفي حين أن الولايات المتحدة ما زالت سوقًا كبيرة للنفط السعودي، فإن الصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من البلدان الآسيوية تشكل نحو 70 في المئة من صادرات السعودية النفطية.
لكن العلاقات السعودية ـ الصينية تذهب أبعد من تجارة النفط، وتشمل استثمارات سعودية كبيرة في مصافٍ وشركات صينية تساعد في تطوير مصافي السعودية وحقولها الغازية. وحققت المملكة تقدمًا كبيرًا في توسيع طاقة مصافيها لتلبية الطلب الداخلي المتزايد على المشتقات النفطية.
&
الشريك الأكبر
في هذا الاطار، دخلت شركة سينوبيك الصينية في شراكة مع ارامكو، لبناء مصفى تبلغ طاقته 400 الف برميل في اليوم بدأ تصدير شحناته الأولى في مطلع العام الحالي. ودخلت ارامكو في مشروع مشترك مع بترو تشاينا ويونان يونتيانهوا لبناء مصفى طاقته الانتاجية 260 الف برميل في اليوم جنوب غرب الصين.
يضاف إلى ذلك أن ارامكو السعودية تدير مصفى آخر في اقليم بوجيان إلى جانب سينوبيك الصينية واكسون موبيل الاميركية.
والأكثر من ذلك أن الصين اليوم أكبر شريك تجاري للسعودية، بما تصدره من الكترونيات ومنسوجات ومنتجات غذائية إلى السوق السعودية. وزاد حجم التجارة بين البلدين العام الماضي على 72 مليار دولار. كما شاركت شركات صينية في تنفيذ عدد من المشاريع الانشائية الكبيرة في السعودية، بينها مشروع سكة حديد الحرمين الذي يربط بين مكة والمدينة المنورة عن طريق ميناء جدة.
&
علاقة بلا شروط
تأتي علاقة الصين مع السعودية بلا شروط. وبخلاف الولايات المتحدة التي تنشر تقارير دورية تنتقد فيها السعودية بدعوى موقفها من الأقليات الدينية أو حقوق المرأة. فإن المسؤولين الصينيين حرصوا على عدم التدخل في شؤون السعودية الداخيلة وسياستها الخارجية. بل إن المسؤولين الصينيين على كل المستويات، من الرئيس شي جنبينغ إلى موظفي السفارة في الرياض، اشادوا العربية السعودية الكبير في أسواق الطاقة العالمية والشرق الأوسط والعالم الاسلامي. كما اوضحوا انهم يحترمون طريق التطور الذي اختارته المملكة بما يلائم ظروفها.
ويحظى هذا الموقف بتقدير السعودية. ولم يفت على السعوديين أن الصين تومئ باتجاه الولايات المتحدة حين تتحدث عن التزامها بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
&
صواريخ صينية
في مواجهة الاخطار التي تهدد أمن المملكة والمنطقة، سواء من الطموحات التوسعية الايرانية أو الجماعات الاسلامية المتطرفة مثل تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" والقاعدة، تعمل السعودية على تعزيز دفاعاتها، وبناء جيش حديث.
وانفقت السعودية نحو 80 مليار دولار على تطوير قدراتها العسكرية والأمنية الداخلية العام الماضي، بحسب مجلة ناشنال انترست. وفي حين أن الولايات المتحدة تبقى اكبر مصدر للأسلحة السعودية فإن الاعتبارات نفسها التي دفعت المملكة إلى تنويع اقتصادها تقف وراء تقليل اعتمادها على مصدر تسليح واحد هو الولايات المتحدة. وكان للصين دور متميز في تنويع مصادر السلاح السعودي.
فالمعروف أن الصين زودت السعودية بصواريخ باليستية متوسطة المدى عام 1988 في صفقة أُبرمت دون علم الولايات المتحدة. وافادت تقارير اميركية أخيرة بأن السعودية استوردت منظومات صاروخية أحدث من الصين، وان السعوديين بخلاف صفقة الثمانينات يجاهرون الآن بما لديهم من قدرات دفاعية صاروخية بل وحتى يكشفون عنها في استعراضات عسكرية. وإزاء وقوف داعش على مقربة من حدود المملكة الشمالية والحوثيين على امتداد حدودها الجنوبية، فإن سياسة الرياض في بناء قدرات المملكة العسكرية تحظى بدعم شعبي واسع في الداخل.
&
الطاقة النووية
أوضحت السعودية قبل فترة طويلة على الاتفاق النووي مع ايران انها ملتزمة إيجاد مصادر طاقة بديلة لتلبية احتياجاتها الداخلية المتزايدة.
وبالاضافة إلى رصد المليارات لتطوير الطاقة الشمسية، خصصت المملكة 80 مليار دولار اضافية لبناء 16 مفاعلا نوويًا، من المتوقع أن يبدأ تشغيل اولها بحلول عام 2022.
وفي حين أن القادة السعوديين أعلنوا أن كل ما تملكه ايران من قدرات نووية ستملكه المملكة ايضًا، فان السعودية من أكبر البلدان المستهلكة للكهرباء والماء في العالم، وبناء محطات نووية هو الطريقة الأنسب لتوليد الطاقة وتشغيل منشآت تحلية الماء، كما يؤكد الكثير من الخبراء.
&
الموقف من سوريا
وفي حين أن الصين ليست مثقلة بأعباء سياسية مثل الولايات المتحدة التي لا يُنظر اليها في المنطقة على انها حامية اسرائيل فحسب بل والمسؤولة الرئيسية عما يجري في العراق، فإن موقف الصين من الأزمة السورية كلفها بعض الرصيد السياسي ولكن ليس بقدر ما كلف روسيا أو ايران. واثار موقف الصين في دعم نظام الأسد العربية السعودية ودولا اخرى تحمِّل الأسد مسؤولية صعود داعش ومقتل نحو 250 الف سوري. لكن وفدًا صينيًا يضم مسؤولين سابقين وأكاديميين وممثلي شركات كبيرة شارك في اعمال المنتدى السعودي ـ الصيني الذي عُقد في الرياض عام 2012، نفى تمسك الصين بالأسد، وقال إن قرارات مجلس الأمن تهدف إلى الحفاظ على سيادة سوريا. وانتقد مراقبون للسياسة الخارجية الصينية في الشرق الأوسط عدم ابدائها روح المبادرة وغياب الارادة السياسية للمساعدة في حل ازمات المنطقة. وتتطلع السعودية ودول أخرى في المنطقة إلى قيام الصين بدور أكبر في المنطقة، ولا تكتفي بالتحرك النشيط في المجال الاقتصادي. وبصرف النظر عما إذا كانت بكين مستعدة للتخلي عن موقفها الحذر من الانغمار في قضايا المنطقة، فإن ما لا يتطرق اليه الشك هو التزام الصين بتعزيز علاقاتها مع السعودية، ومن شأن هذا أن يخدم توجهات السياسة السعودية في تنويع علاقاتها وتحالفاتها الدولية.
&
فتش عن السياسة
بلغ حجم الصادرات السعودية غير النفطية إلى الصين خلال السبعة أشهر الأولى من العام الحالي 12.4 مليار ريال (3.3 مليارات دولار)، لتتراجع 22.6% عن الفترة المماثلة من العام 2014 والبالغة 15.98 مليار ريال (4.3 مليارات دولار).
وكان لي تشينج ون، السفير الصيني لدى السعودية، أكد نهاية آب (أغسطس) الماضي أن كميات النفط الخام التي استوردتها الصين من السعودية بلغت 26.38 مليون طن خلال النصف الأول من العام الجاري، وبزيادة 9.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وهذه العلاقة التجارية، والسياسية أيضًا، مرشحة للتبلور اكثر فأكثر بعد القمة التي جمعت الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، والتي كان الملك سلمان حازمًا، إذ يقول مراقبون إن السعودية ستكثف تعاونها مع الصين في جميع المجالات، موجهة بذلك رسالة سياسية إلى الولايات المتحدة، مفادها أن البدائل دائمًا متوافرة، إن لم تكن واشنطن على قدر المسؤولية التي تحملها إياها الرياض، خصوصًا بشأن المخاوف الخليجية من الاتفاق النووي مع إيران.