يتساءل مراقبون لِمَ بقيت الجزائر بمنأى عن الربيع العربي منذ 2011. يرى المحلل جون ب. انتيليس من معهد واشنطن أن التساؤل ينم عن نظرة مجتَزأة إلى تاريخ الجزائر القريب، فهي عاشت ربيعًا لم يعمر طويلًا سبق الانتفاضات العربية بعقدين من الزمن.


إعداد عبد الاله مجيد: بعد الانتخابات البرلمانية في الجزائر في أواخر 1991، بدا أن الجبهة الاسلامية للانقاذ ستخرج منتصرة، فألغت السلطات الجزائرية نتائج الانتخابات وحظرت الجبهة خوفًا من سيطرة الاسلاميين على الحكم.

رد الجناح العسكري للجبهة الاسلامية بتمرد مسلح فجّر حربًا أهلية كلفت الجزائر نحو 200 ألف قتيل. وكان من ضحايا ذلك "العقد الأسود" مسيرة التحول الديمقراطي الذي لاحت بوادره بإنهاء نظام الحزب الواحد وإجراء الانتخابات.

وتبدو آفاق الاصلاح الديمقراطي في الجزائر اليوم معقدة ومتناقضة كتاريخ هذا البلد الزاخر بالانعطافات وحياته السياسية التي لم تعرف انفتاحًا حقيقيًا حتى الآن.

وفي حين أن المجتمع المدني الجزائري يتحلى بروح ديمقراطية إن لم تكن ثقافة سياسية ناضجة، فإن التوجه الديمقراطي مفكك ومبعثر. وعلى الرغم من انتشار الجمعيات على اختلاف اتجاهاتها، فإن قدرتها محدودة لا تستطيع بلورة برامج إصلاحية متكاملة، مهما كانت تطلعات الجزائريين قوية إلى مستقبل ديمقراطي.

من جهة أخرى، يحكم النظام السلطوي قبضته على المجتمع المدني من خلال مجمع عسكري ـ صناعي، يحتكر أدوات الدولة الاقتصادية والبيروقراطية الرئيسية في ممارسة الاكراه مع مواطنيه.

وأشار معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في دراسة تتناول الجذور التاريخية للمجتمع المدني الجزائري إلى أن آفاق الاصلاح الديمقراطي ما زالت حية في هذا المجتمع، مهما كانت محدودة.
&
السمة الجزائرية

كانت الدولة الجزائرية تعتبر منذ زمن طويل قوية بمؤسساتها - إن لم يكن بشرعيتها -& تجاه المجتمع، محافظة على هيمنتها من خلال تعزيز دورها في الاقتصاد وتقوية قدراتها القسرية لتكميم الاصوات التي تعبر عن أماني الشعب في الديمقراطية.

لكن سطوة الدولة الظاهرة تخفي وراءها حراكًا يكافح فيه المجتمع لتأكيد إرادته السياسية في مواجهة دولة "شرسة"، مستعدة وقادرة على فرض سلطتها بالجمع بين الاستيعاب والاكراه.

وهكذا، تجلس دولة قوية في الظاهر لكن منقسمة في الباطن على قمة هرم اجتماعي هش، يقف دائمًا على حافة الاخلال بالتوازن السياسي الذي أقيم على امتداد عقود، كما يُفترض. فمنذ استقلالها، كانت الجزائر مثقلة بالنزاعات والتناقضات وعدم التواصل بين مكوناتها السياسية - الاجتماعية والاقتصادية - الاجتماعية.
ويُلاحظ في الدولة الجزائرية، التي قامت بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1962، أن الرئاسة والسلطة التنفيذية كانتا امتيازين محجوزين لكبار القادة العسكريين ونظرائهم في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.

وسواءً في تنصيب الشاذلي بن جديد خلفًا للرئيس هواري بومدين بعد وفاته في عام 1979، أو في عزله في عام 1992، فإن المؤسسة العسكرية - الأمنية الجزائرية كانت قوة مقررة وحاسمة.

وتبدى هذا بشكل ساطع في سنوات العقد الأسود، بين عامي 1992 و2002، حين كان الجيش مشتبكًا في حرب ضارية مع المسلحين الاسلاميين.

كانت المؤسسة العسكرية - الأمنية هي من نصب قادة البلد الذي تعاقبوا على الحكم، من محمد بوضياف إلى عبد العزيز بوتفليقة، مرورًا بعلي كافي واليمين زروال، بهدف تأمين مصالح الدولة كما تحددها شريحة ضيقة من النخب العسكرية وحلفائها في المجمع العسكري - الصناعي.

ويقوم ثالوث يمثل مصالح هذه الشريحة بدور الأداة المالية والبيروقراطية لممارسة الاكراه من أجل الحفاظ على سيطرة الدولة. وتتألف اضلاع هذا المثلث أولًا من القيادة العليا للجيش والأجهزة الأمنية، لا سيما الاستخبارات، وثانيًا شركة سوناطراك النفطية العملاقة، وثالثًا ديوان الرئاسة الذي يدير شبكة واسعة من المحاسيب والأتباع.

لكن هذه السيطرة التي تمارسها الدولة نفسها منخورة بالشروخ والأجنحة والانقسامات الداخلية التي تُحل من خلال عملية دورية من الاستيعاب والاكراه، الأمر الذي يجعل هيمنة الدولة مكشوفة على تغيرات لا يمكن التنبؤ بها في موازين القوى بين الأطراف الاستراتيجية الأساسية. وما التغير الحالي في ميزان القوى بين الجناح الرئاسي ونظيره في الأجهزة الاستخباراتية إلا المظهر الأحدث في هذه الدورة.
&
دولة غنية.. مجتمع فقير

يرى المجتمع المدني الجزائري أنه واقع ضحية تلاعب وتهميش واستغلال على يد المؤسسة العسكرية - الأمنية والمجمع العسكري - الصناعي. وعلى الرغم من وفرة العائدات المتحققة من ثروات الجزائر الهيدروكاربونية، وانخفاض الديون الخارجية، وامتلاك صندوق سيادي تزيد أمواله على 150 مليار دولار، فإن الجزائر توصف بأنها "دولة غنية مجتمعها فقير".

ومن نتائج هذه المفارقة وضع دائم من التململ الاجتماعي في أنحاء البلاد، حيث كثيرًا ما تنظم الحركات الاجتماعية من نقابات عمالية واتحادات طلابية وفلاحية وناشطين مدنيين، اضرابات وتظاهرات واحتجاجات عامة تتخللها اشتباكات عنيفة مع قوات الشرطة.

وفي حين أن هذه النضالات مطلبية في الأغلب، تتعلق بتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات، فإن محصلتها الاجمالية هي إشاعة بيئة من الاضطراب الاجتماعي والاستياء المدني تطعن في شرعية النظام وتتحدى سطوته السياسية.

وتنعكس الهوة بين الدولة والمجتمع بانقسامات داخل كل منهما ايضًا. وعلى مستوى الدولة، تتمحور الشروخ والاحتقانات حول قضية التوريث الرئاسي وادارة ثروات البلاد الطبيعية، بما في ذلك التنقيب عن النفط الصخري ومدى التضحية بالفرص الاجتماعية - الاقتصادية والحريات السياسية بذريعة مكافحة الارهاب.

على مستوى المجتمع، تتبدى خطوط الانقسام في نواح عدة، سواءً في قضية البربر أو في الصراع بين الاسلاميين والعلمانيين أو الفوارق بين المدينة والريف، بين شمال الجزائر وجنوبها، بين شرقها وغربها، بين الناطقين بالفرنسية والناطقين بالعربية، ... إلخ. تحول هذه الشروخ داخل الدولة وداخل المجتمع دون انهيار الدولة، لكنها تصنع في الوقت نفسه مجتمعًا يقف دائمًا على حافة غليان ثوري.
&
المجتمع المدني الجزائري

لا يمكن فهم الجزائر اليوم من دون فهم مسار تطورها السياسي المعقد. يقف هذا التاريخ الشائك وراء تعايش اتجاهين قويين لكن متناقضين في الثقافة السياسية الجزائرية: السلطوية السياسية أو نزعة الحكم المركزي، والديمقراطية السياسية أو تطلع المواطنين إلى حرية الخيار. الفترة المديدة من السيطرة الاستعمارية وضرورة الحفاظ على الهوية بأي ثمن، وما فرضته حرب الاستقلال من تعاون وتضامن في مواجهة عدو أقوى، عوامل أوجدت احساسًا دائمًا بالهوية الوطنية وبالهدف السياسي الذي يتسم بأهمية تطور المجتمع المدني والشرعية السياسية. يضاف إلى ذلك أن هذه العوامل أطلقت ميلًا إلى تبرير السيطرة السياسية من القمة بوصفها ضرورية لمحاربة "أعداء" الدولة في الداخل والخارج.

كما أن الفترات المديدة من الاحتكاك بالمجتمعات الاوروبية عن طريق السفر والدراسة والعمل، إلى جانب بناء شبكة اتصالات وإعلام واسعة، كلها اطلعت الجزائريين على أشكال بديلة للتعبير السياسي. وشكلت هذه التطورات تحديًا للنظام السياسي السلطوي معززة في الوقت نفسه الاتجاهات الشعبوية والديمقراطية.

لكنّ هذا التطلع إلى الحرية والتحرر الذي اكتسبه الجزائريون في النضال ضد السيطرة الأجنبية لم يُسمح له بالازدهار بعد الاستقلال، حين أُخضع المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية إلى جهاز الدولة والحزب الحاكم واختُزل دورها إلى حشد التأييد والدعاية للنظام.

وما أسهم في استمرار السيطرة المركزية المحكمة على المجتمع مقايضة سياسية تنازل فيها السكان عمومًا عن حق المشاركة السياسية وحرية الاختيار، في مقابل ضمان الفرص الاقتصادية وتوفير الرعاية الاجتماعية من جانب الدولة. وبدأ هذا العقد الاجتماعي بالتفكك مع انهيار اسعار النفط في أواخر الثمانينات. وفي النهاية، أدى تردي الأوضاع الاجتماعية - الاقتصادية إلى حركة احتجاج ظهرت أواخر 1988، وأسفر قمع الجيش للحركة عن مقتل مئات... وربما آلاف الجزائريين.

تسببت الأزمة السياسية التي أعقبت ذلك في تغير ميزان القوى بين الدولة والمجتمع الذي بدأ يؤكد حضوره السياسي.

وبعد تعديل 1989 الدستوري الذي أنهى حكم الحزب الواحد لصالح نظام انتخابي تعددي عاد المجتمع المدني إلى الظهور مع ترخيص "الجمعيات ذات الطابع السياسي" والسماح لها بالتنظيم وكسب الأعضاء ونشر افكارها والتظاهر. ونتيجة لذلك، تطور عدد من جماعات المصلحة إلى أحزاب سياسية.

وانبثقت في العامين التاليين على تعديل الدستور آلاف الجمعيات والمنظمات المهنية المستقلة والأحزاب السياسية. ويعكس هذا النهوض الديمقراطي العفوي المسار المتعرج لتطور الجزائر المستقلة وهويتها السياسية وتوجهها الاشتراكي ومكانتها الدولية. ومن دون هذه الشروط المسبقة كان من المستبعد أن تتطور السياسة التعددية بهذه السرعة أو على هذا النطاق الواسع. وبالتالي، فإن التجربة الجزائرية في الديمقراطية مضت أبعد من كل ما عرفته المنطقة في هذا المجال قبل الربيع العربي.

ويؤكد نجاح الاسلاميين في مثل هذه البيئة التعددية الأجواء التشاركية الأساسية في المقام الأول، وبالدرجة الثانية فقط يشير نجاحهم إلى دور الدين في السياسة أو صعود الاصولية الدينية.
&
مجتمع اليوم

لم تنشط منظمات واتحادات مدنية أو أسهمت في حيوية المجتمع المدني وتدعيم الافكار الديمقراطية مثلما نشطت وأسهمت منظمات الصحافيين والبربر والحركة النسوية والناشطون من أجل حقوق الانسان.

وما زالت هذه المنظمات في مقدم الدفاع عن القيم الديمقراطية. وعلى الرغم من التفكك الذي أصاب المجال الاجتماعي، تبقى الديمقراطية هدفًا مركزيًا لهذه المنظمات، وإن كان تمثيلها يتخذ اليوم شكل أعمال فردية في الأغلب.

لكن محاولات الدولة لترويض واستيعات منظمات مدنية عريقة مثل الاتحاد العام للعمال الجزائريين ورابطة الدفاع عن حقوق الانسان أعاقت قدرة المنظمات المستقلة على كسب تأييد شعبي واسع.

كان من نتائج ذلك إضفاء طابع فردي على المطالب الديمقراطية بظهور ناشطين بارزين يدعون إلى الاصلاح أن لم يكن الى&الديمقراطية مثل عبد النور يحيى (حقوق الانسان) وخليدة تومي (الحركة النسوية) وكامل داود (الصحافة).

تبدى الشكل الفردي للنضال المطلبي من أجل الديمقراطية في تشرين الثاني (نوفمبر) حين وجه 19 من المثقفين والشخصيات السياسية والناشطات النسويات والمقاتلين القدامى في حرب الاستقلال والمدافعين عن حقوق الانسان رسالة إلى الرئيس الجزائري بوتفليقة تطالب بمحاسبة الحكومة وبالشفافية السياسية ونزاهة القضاء وتلبية حاجات الشعب ومطالبه.
&
حدود الاصلاح

عمومًا، تواجه فرص الاصلاح في الجزائر عقبتين رئيسيتين. وتتعلق العقبة الأولى بالموقف من الديمقراطية الليبرالية؛ إذ يلاحظ مراقبون أن قلة من المطالبين بالديمقراطية يؤمنون بالديمقراطية الليبرالية التي تضمن، إلى جانب الممارسات المعهودة في المنافسة المفتوحة، حرية التعبير والتنظيم والصحافة والمعتقد والحماية القانونية للأقليات. وفي حين أن بعض الأفراد يحملون افكارًا تقدمية، فإن منظمات جماهيرية مثل الاتحاد العام للعمال الجزائريين تشاطر النظام توجهه الاشتراكي ودور الدولة المركزية.

والاشكالية الأكبر هي السياق الاجتماعي الأعرض الذي يعمل فيه دعاة الاصلاح الديمقراطي؛ إذ توصل استطلاع واسع للرأي العام العربي شمل الجزائر إلى أن نسبة قليلة من الجزائريين يرفضون الديمقراطية عمومًا، لكن نسبة كبيرة منهم يعارضون تطبيقها في بلدهم، كما لاحظ معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في دراسته لآفاق التطور الديمقراطي في الجزائر. فالمواطنون في عموم المنطقة يميلون إلى اعطاء الأولوية للأمن وتحسين اوضاعهم الاقتصادية والأصالة الثقافية على المبادرات الرامية إلى غرس الديمقراطية الليبرالية.

العقبة الثانية التي تعترض طريق الاصلاح تتعلق بموقف النظام. وفي حين أن الصراع على مستوى الدولة بين الحرس القديم في الجيش والأجهزة الاستخباراتية والرئاسية فان المجتمع يغلي بمشاعر الاستياء مع تعمق الفجوة بين الدولة والمجتمع. ويكتنف الغموض خلافة بوتفليقة على خلفية تململ اجتماعي مزمن واضطرابات مدنية وتهديدات ارهابية وخدمات اجتماعية متردية وفساد متفش واعمال عنف اثنية وهبوط عائدات النفط والغاز.
&
الاغتراب العميق

كما أن أحزاب المعارضة عاجزة والسلطة التشريعية عقيمة والقضاء ضعيف والجهاز الاداري غير كفوء ويتفشى فيه الفساد. والناخبون يشعرون باغتراب عميق ولا يثقون بالعملية السياسية بل يعتقدون أن صنع القرارات الحقيقية يجري وراء أبواب مغلقة. ونتيجة لذلك، فإن عملية صنع القرار في جزائر القرن الحادي والعشرين لا تختلف عنها في القرن العشرين باحتكار زمرة من الشخصيات الغامضة في المجمع العسكري - الصناعي عملية صنع القرار، متعاونين في ما بينهم أحيانًا ومختلفين أحيانًا أخرى، وتعزل رؤوس وتُنصب أخرى بلا تفسير أو أسباب واضحة للرأي العام.

في مواجهة الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية - الاقتصادية في الجزائر، أما زال النظام قادرًا على ترويض المعارضة وشراء السلام الاجتماعي كما كان يفعل "روتينيًا" في السابق؟ هل ضغط ناشطين افراد معروفين وحركات المجتمع المدني من أجل الاصلاح واسع ومتواصل بما فيه الكفاية لنقل الجزائر من نظامها السلطوي الحالي إلى نظام ديمقراطي حقيقي؟

تتمثل الخلاصة العامة في ما يتعلق بوضع دعاة الاصلاح الديمقراطي في أن الأفكار الديمقراطية والمواقف الليبرالية إذ تتمتع بشعبية واسعة في المجتمع الجزائري مهما كان طرحها مبهمًا، فإنها تبقى مشتتة بدرجة كبيرة خصوصًا بين المثقفين وغيرهم من صناع الرأي. تعكس هذه الانقسامات الايديولوجية خطوط الانقسام الأكبر التي اتسمت بها العلاقة بين الدولة والمجتمع في الجزائر منذ الاستقلال.

وفي غياب توافق عريض على تفسير "الديمقراطية" و"الليبرالية"، سيكون من الصعوبة بمكان صوغ برنامج ذي معنى للاصلاح الديمقراطي قادر على كسب تأييد الجماهير والمنظمات المهنية والاجتماعية.

تبقى الدولة الجزائرية، من جهتها، مغلقة بوجه المطالب الاجتماعية بالاصلاح والديمقراطية، وأي اصلاح يجب أن يكون بحسب تصور النظام نفسه ومن صنعه وبقيادته.