إيلاف من باريس: الواقع لو راقبنا التطورات في هذا البلد منذ أشهر حتّى اليوم، لخيّل إلينا أن غضبًا إلهيًا ينصبّ على هذه البقعة من الأرض ويتعب أهلها. تعيش فرنسا في حالة طوارئ طويلة منذ هجمات 13 تشرين الثاني / نوفمبر. الجميع يذكر تلك الليلة الصادمة والقتل المتزامن في أماكن عدّة من باريس. منذ ذلك اليوم تقع فرنسا ضحيّة "نحس" يلاحقها في كلّ خطواتها.

من يمش في شوارع باريس في الأسابيع الأخيرة يشعر بوضع غير طبيعي، بارتباك رهيب يلفّ المناطق، زحمة سير وزمامير، تظاهرات، قطع طرق، أعمال شغب. قد لا تكون ثورة أو ربيعا أوروبيا كما يصفه البعض لكنها من دون شك تحرّكات مطلبية مهمة لشعب يدرك تمامًا، بالإجمال، حقوقه وواجباته.

حتى أن الطبيعة تحالفت ضدّ فرنسا. أمطار شديدة يشهدها شمال هذا البلد منذ بداية الأسبوع، فيضانات لا مثيل لها منذ عام 1955. باريس التي بدأ بناؤها في وسط نهر السين تغرق في الرحم الذي خرجت منه. ارتفع مستوى النهر ستة أمتار ونصفا عن مستواه الطبيعي وغطّت المياه البنّية طرقا وساحات ومرائب للسيارات. مياه النهر غمرت محطات القطار فتوقّف العمل في عدد كبير منها وامتنعت بعض الباصات عن سلوك مسارات قريبة من النهر العريض. المتاحف أقفلت أبوابها، اللوفر وأورساي والقصر الكبير ومكتبة فرانسوا فرديناند، كلّها فضّلت عدم استقبال الزوار وحماية الآلاف من التحف الفنية من خلال نقلها إلى طبقات عليا.

كارثة طبيعية، هكذا وصفها الرئيس فرانسوا هولاند. الخسائر تقدّر بـ600 مليون يورو على الأقلّ، من دون الحديث عن الاستثمار الذي باتت الدولة مضطرة إلى تخصيصه للسدود والخزانات تفاديًا لأحداث مماثلة في المستقبل.

ليس هذا كلّ شيء. تواجه فرنسا مشكلة كبيرة منذ أشهر هي قانون العمل الجديد. نقابات وجمعيّات تنظّم تظاهرات شبه يومية. اليسار الفرنسي يتظاهر ضدّ قانون صادر عن الحكومة اليسارية. وينجح في ضغطه نظرا الى ضخامة نسبة المشاركة في التحركات، كما أن الإضرابات تشمل منصات عدّة قادرة على شلّ البلد؛ أبرزها وسائل النقل العام التي أصيبت بالشلل تكرارا ، فضلا عن الامتناع عن توزيع المحروقات للمحطات وحتّى التوقف عن معالجة النفايات. كل الجبهات مفتوحة، وكلّ الجبهات تزيد الوضع تعقيدًا. والأنظار كلّها تتجه إلى مجلس الشيوخ الذي يضيف بعض التعديلات إلى القانون ليصوّت عليه الأسبوع المقبل حين أن مطلب المعارضين واحد: التراجع الكلّي عن قانون العمل.

ليس هذا كلّ شيء. تعب حقيقي يلفّ البلاد، رفض يشعر به كلّ زائر للمنطقة. ثمّة خوف حقيقي من جمود سياسي في فرنسا خصوصا أن الأسماء المرشّحة لرئاسة 2017 لا تبدو مختلفة كثيرًا عن أسماء عام 2012. دوّامة يخاف دخولها كثيرون.

ليس هذا كلّ شيء. هل ننسى أزمة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين التي تربك كلّ أوروبا ولا سيّما فرنسا الممزّقة بين حقوق الإنسان وقدرتها الاقتصادية وخطر الإرهاب الذي يلاحقها. اقتصاديًا أيضًا، هل ننسى أن 10 آلاف مليونير غادروا فرنسا العام الماضي بسبب التوتر الديني حسب دراسة New World Wealth؟

كلّ ذلك يأتي في أسوأ توقيت لفرنسا. هي على أبواب فصل الصيف والموسم السياحي الناشط، وتجري فيها الآن مباريات كرة المضرب رولان غاروس التي تأثرت كثيرًا بالأحوال الجوية. وتتحضر باريس أيضًا لاستقبال بطولة كأس أوروبا في كرة القدم الأسبوع المقبل.

ليس هذا كلّ شيء، فالشرطة الفرنسة أعربت أمس عن خشيتها من التجمعات الكبيرة التي تحضّرها باريس من أجل كأس أوروبا لأسباب أمنية وقد يتمّ إلغاء بعض النشاطات حفاظًا على سلامة المواطنين والسياح.

ألا يكفي كلّ ذلك؟ بالفعل، ماذا فعلت فرنسا لتستحق كل هذا الغضب؟