كانت ساقه فقط هي التي يُمكن رؤيتها على الشاطئ بالساحل الليبي كما لو كانت توجه توبيخا لكن دون صوت. أما الجسد المنهك الذي تعود إليه هذه الساق فقد ابتلعته الرمال. وقال أبو بكر السوسي بنبرة تعلوها الحزن: "الله يغطيهم عندما يخرجون من المياه." ووثّق المصور الليبي الشاب هذه الجثة المجهولة، وقرابة 20 حالة أخرى، على شواطئ مدينة غرابولي، شرقي العاصمة، طرابلس، في مارس/ آذار. وربما كان على أبو بكر، كمتطوع مع الهلال الأحمر، توثيق أكثر من ذلك بكثير من جثث القتلى المجهولين في البحر المتوسط. وحتى الآن، قتلت الأمواج،خلال هذا العام وحده، ما يربو على ثلاثة آلاف مهاجر ولاجئ أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، طبقا للمنظمة الدولية للهجرة. غير أن بيتي، الفتاة النيجيرية البالغة 29 عاما، والتي رفضت أن ينشر اسمها، لم تكن خائفة من محاولة عبور البحر في قارب مطاطي مكتظ. وقد لا يكون هناك عجب في ذلك، إذ خُدعت بيتي قبل ذلك واتّجر بها في أنحاء متفرقة من منطقة الصحراء الكبرى، وضربت، وعوملت معاملة وحشية. وكان أحد المهربين العائدين إلى وطنه قد وعد بيتي بوظيفة في مصر. لكن بعد أن دفعت له 200 ألف نايرا نيجيرية (645 دولارا) "شحنت" في سيارة نقل في رحلة مرعبة إلى طرابلس. وقالت بيتي لبي بي سي: "الكثيرون يموتون في الصحراء. عندما يسقط شخص فإنهم لا ينتظرونه. لقد رأيت عددا كبيرا من الجثث. كنت أبكي." وأضافت: "إذا صرختِ فستقتلين على الفور. حتى إنه عندما نرقد في الصحراء، لم نكن نعرف أننا كنا ننام على جثة شخص ميت. فذلك ما كنا نراه عندما نزيل بطاطيننا (في الصباح)، يا للهول، هذا هيكل عظمي." وعندما وصولها إلى ليبيا، كانت هناك "محنة أخرى" كما تقول بيتي. وسلمت الشابة النيجيرية إلى عصابة حاولت إجبارها على العمل في الدعارة. واضطرت بيتي إلى شراء حريتها باقتراض المزيد من المال. ودفعت على الفور لمهرب آخر 1200 دينار ليبي (860 دولارا) لنقلها إلى أوروبا. وتقول إنه لا خيار آخر لديها. وقالت بيتي لبي بي سي: "أنا أحتاج الذهاب لأنني أم وحيدة بولدين. أحتاج إلى الذهاب إلى ألمانيا." وأضافت: "أعلم أن الأمور ليست يسيرة هناك، لكنها أفضل بكثير من نيجيريا. فأطفالي يحتاجون إلى الذهاب إلى المدرسة، وفي حاجة إلى حياة أفضل." وواجه محمد غربج، وهو من خفر السواحل الليبية، الكثير مما واجته بيتي، من الأموات والأحياء. فالربان النحيف الذي تعلو وجهه مظاهر الشقاء في الصحراء أنقذ أشخاصا لا حصر لهم، لكن أرواح من لم يتمكن من إنقاذهم باتت تسيطر عليه. وقال: "في إحدى المرات، ذهبنا لإنقاذ قارب، وللأسف لم نعثر سوى على شخص واحد على قيد الحياة." وتابع: "غرق الآخرون جميعا، وكانوا 120 شخصًا. فالأشخاص الذين يرسلونهم على متن تلك القوارب ليسوا مسلمين صالحين. فهم بلا قلوب عندما يرسلون الناس للموت في عرض البحر." وانضممنا إلى غربج في مهمة بحث عن مهربين ومهاجرين، وغادرنا الميناء على متن قارب مطاطي يبلغ طوله 12 مترا. وكان القارب هو الوحيد الصالح للإبحار، ومواجهة الأمواج التي كانت قوات خفر السواحل تمتلكه، إذ لم يكن في مقدورهم إصلاح الثلاثة الآخرين. وفي الظلام الدامس، أطفأ غربج وطاقمه محركات قاربهم ليستمعوا إلى أصوات قوارب المهاجرين، إذ ليس هناك الكثير ليقوموا به. فليس لديهم مناظير للرؤية الليلية، ولا يتمكن رادارهم من رصد القوارب الصغيرة. واعترف غربج وطاقمه بأن المهربين هم من كانوا يسيطرون على الوضع. وقال الشاب محمد بوشجور، أحد أفراد الطاقم: "المهربون لديهم الكثير من القوارب والكثير من الأسلحة." وأضاف: "فهم (المهربون) يمتلكون بنادق بعيدة المدى، ويتمكنون من مرافقة المهاجرين إلى المياه الأوروبية ونحن لا نستطيع القيام بشيء لإيقافهم. الدولة لا تساندنا. نحن لم نتلق رواتبنا من مارس/ آذار." ويقول مسؤولو خفر السواحل إن ثمة مشكلة أخرى، هي عملية صوفيا. وكان من المفترض أن تعيق مهمة الاتحاد الأوروبي، التي تعمل بالقرب من المياه الإقليمية الليبية، عمليات التهريب. وبدلا من ذلك، توفر العملية "خدمة سيارات أخرى للمهاجرين"، حسبما ذكر العقيد أشرف البدري رئيس وحدة مكافحة التهريب في طرابس، لبي بي سي. ويضيف: "فمن وجهة نظري، تشجع العملية (صوفيا) المهاجرين بصورة غير مباشرة على الذهاب إلى أوروبا. ففي الوقت الحالي، ليس عليهم سوى السفر لـ12 ميلا فقط. ومن ثم تنقذهم قوات الاتحاد الأوروبي، فيحصلون على الطعام ويُنقلون إلى أوروبا." وبالطبع، ينتشر الخبر. ويعلم كل المهاجرين أنه بدلا من السفر في رحلة محفوفة بالمخاطر لأكثر من يوم، ستنقلهم القوات في أربع أو خمس ساعات." وردد وجهة النظر تلك مهرب معتقل الآن في طرابلس تصفه السلطات بأنه "صيد ثمين". وقال لبي بي سي: "العملية (صوفيا) تنقذ الأرواح ... وتشجع المهاجرين على السفر أكثر." لكن منظمة الهجرة الدولية تقول إن المهاجرين واللاجئين سيحاولون الوصول إلى أوروبا سواء أكانت في وجود العملية صوفيا أو دونها. وقال المتحدث باسمها، إيتاي فيريري: "أستطيع أن أفهم ما يعتبره الليبيون عامل جذب، لكن الناس دائما ما يجدون وسائلهم." وأضاف: "نرتعد عندما نتخيل كيف سيكون الوضع دون جهود الإنقاذ. قضية إنقاذ أوراح الناس أمر شديد الأهمية." وينتهي الحال بأولئك الذين تنقذهم قوات خفر السواحل الليبية في مراكز اعتقال، مثل أبو سالم، واقعة على أطراف طرابلس. فالمئات منهم عالقون فيما يمكن وصفه بسجن صغير لا يصله الهواء، من بينهم نساء وأطفال. وكان أصغر معتقل رأينه بينهم رضيعا يبلغ من العمر 21 يوما يدعى محمود. وكانت الأسباب الاقتصادية تقف وراء رغبة الكثيرين ممن التقيناهم هناك في الهجرة، من بينهم صبي (14 عاما) من غامبيا. وقال إنه سافر إلى ليبيا وحده يحدوه أمل العبور إلى أوروبا والعثور على وظيفة مناسبة. وأضاف: "أتيت من أسرة فقيرة. وأردت الوصول إلى إيطاليا، حتى أستطيع إطعام أسرتي. هم لم يتحدثوا معي منذ شهرين، وسيظنون أنني لقيت حتفي." وقال الكثير من المعتقلين إنهم يريدون إطلاق سراحهم. وهذا سيحدث فقط إذا وافقوا على ترحيلهم إلى أوطانهم مثلما حدث مع 160 شخصا من غامبيا تركوا المعسكر في الآونة الأخيرة. وقال أحد المرحلين وهو يصطف أمام الحافلة: "العودة إلى الوطن ستكون بمثابة الذهاب إلى الجنة ... أريد رؤية أمي." وبالعودة إلى الشاطئ، أضحت بيتي عارية القدمين، ترتطم أقدامها بأمواج الشاطئ المتواصلة. وتقول بيتي: "لست خائفة ... فعزيمتي قوية لأنني أؤمن بالله. ففي كل مرة أنظر إلى البحر أقول للمياه: لن تكون نهايتي. لن يحدث شيء لي.""النوم على الجثث"
"خدمة سيارات أجرة"
"لست خائقة"
- آخر تحديث :
التعليقات