حسونة المصباحي
في كتاب "في بلاد عسير" الذي صدر عام 1951، وأعيد طبعه عام 1968، نحن نعثر على تفاصيل مهمة اجتماعية وسياسية وأنثروبولوجية وتاريخية وأدبية تتصل بالمملكة العربية السعودية.
مؤلف هذا الكتاب هو فؤاد حمزة الذي كان يسمى أيضًا بفؤاد بك حمزة، ويكنى بـ"أبو سامر". وهو لبناني درزي من مواليد عام 1899. يعود أصل عائلته إلى قحطان من عرب الجنوب. وقد بدأ حياته مربيًا في المدارس الحكومية. وبما أنه كان يتقن الإنجليزية فإن الرئيس السوري شكري القوتلي نصح الملك عبد العزيز بأن يتخذه مترجمًا له. ومن المؤكد أنه تمكن في ظرف زمني قصير من الإحراز على إعجاب الملك عبد العزيز، وعلى ثقته. لذا منحه الجنسية السعودية ليصبح أحد أبناء المملكة الأوفياء.
تقلد فؤاد حمزة مناصب رفيعة في وزارة الشؤون الخارجية. كما كان وزيرًا مفوضًا في كل من باريس وأنقرة. وأكثر من مرة أرسله الملك عبد العزيز إلى أوروبا وإلى الولايات المتحدة الأميركية ليتكفّل بالتعريف بالسياسة الخارجية للمملكة. وحتى وفاته عام 1951 بمرض القلب، ظل فؤاد حمزة رجلًا مخلصًا في جميع المناصب التي تقلدها. كما ظل وفيًا لجلالة الملك عبد العزيز، مضطلعًا بدراية وبتفان ومهارة بجميع المسؤوليات الجسيمة التي كُلّفَ بها على مدى ربع قرن.
يعكس كتاب "في بلاد عسير" الثقافة الواسعة التي كان يختصّ بها فؤاد حمزة، وفطنته ، ومعرفته بدقائق التاريخ والجغرافيا، وإلمامه بخاصيات الشخصيات التي كانت فاعلة في سياسة المملكة في الثلاثينات من القرن الماضي. وفي المقدمة يشير فؤاد حمزة إلى أنه كتب كتابه المذكور عقب مرور 15 سنة على الرحلة التي قام بها إلى بلاد عسير التي تمّت عام 1934.
خلال تلك الرحلة، حرص على تسجيل مشاهداته على شكل يوميات مثلما يفعل المؤلفون الأوروبيون. وكان الغرض من تلك الرحلة إدارة المفاوضات العسيرة بين المملكة العربية السعودية واليمن بزعامة الإمام يحي بهدف التوصل إلى حلول للمشاكل الحدودية القائمة بين البلدين المتجاورين، والتي كانت قد أدت أكثر من مرة إلى مواجهات عنيفة ومصادمات خطيرة بين البلدين.
إلا أن فؤاد حمزة يشير في البداية إلى أن كتابه "لا يبحث في السياسة، ولا يشرح أسباب النزاع بين الملك عبد العزيز والإمام يحي والحرب والمفاوضات والصلح وما جرى من أحداث جسام بين الحجاز واليمن، وإنما هو كتاب رحلة وجغرافيا وتاريخ واجتماع".
قبل الرحلة التي بدأت في 30 يناير- جانفي 1934، كان على فؤاد حمزة أن يعدّ الترتيبات الخاصة بها. ففي تلك الفترة كانت المملكة العربية السعودية "أرضًا بكرًا لم تعرف بعد معالم الحضارة الحديثة". وكانت المعلومات بشأن القبائل والمناطق قليلة، بل لعلها منعدمة أصلًا. لذلك استعدّ فؤاد حمزة لتلك الرحلة" استعداده للمجهول".
ومنذ البداية اعتزم تدوين ملاحظاته ومشاهدته" للأماكن والمسافات والأبعاد والآبار والقبائل والقرى والأودية، واستقصاء ما هو مجهول عنها، ووضع خريطة للطريق يصحّ الرجوع إليها". وكان هدفه من كل الترتيبات التي أعدّها تجنب السطحية التي غالبًا ما تتسم بها الدراسات العربية، والتوصل إلى "نتائج علمية باهرة". لذا كان عليه أن يتصل قبل الشروع في رحلته بصديق أوروبيّ كان قد تعوّد على السفر في البوادي والصحاري العربية راجيًا منه أن يسعفه ببعض معلوماته، ويعيره بعض أدواته.
إلاّ أن هذا الصديق لم يستجب لطلبه، ربما لأنه كان يعتقد أن العربي "لا يستطيع أن يأتي بما ياتي به الإفرنج". لذلك قرر فؤاد حمزة أن يعتمد على إمكانياته الذاتية، وعلى أن يكون "مرهف الأذنين، مّنقّبًا عن الكبيرة والصغيرة، محققًا جزئيات الأمور ودقائقها، سائلًا متعلمًا، جامعًا للروايات والأخبار، مهتمًا بكل ما تقع العين عليه أو تسمع الأذن به أو تمسّه اليد".
لكي يضمن النجاح لرحلته المعرفية والعلمية، اختار فؤاد حمزة أن يكون رفقاء رحلته نافعين ومفيدين له في هذا المجال وذاك. أول هؤلاء المهندس محمد كنعان خريج الجامعة التركية في إسطنبول. وهو شاب اشترك في جلّ الحركات العربيّة. وهو متخصص في أخذ القياسات وتسجيل الأرصاد ودراسة حال الطريق.
أما الثاني فهم السكرتير الخاص لفؤاد حمزة ورفيقه في كلّ أسفاره. وهو يمتلك خبرة كبيرة في إعداد وتنظيم ترتيبات السفر. ومن رفقاء السفر الآخرين "القهوجيّ والطهاة والسائقون ومعاونوهم. وفي كل منطقة يمر بها ، كان فؤاد حمزة يختار واحدًا من أهلها خبيرًا بها وبهم. وهو غالبًا ما يكون "أوسع خطى، وأبعد مدى، وأعلى كعبًا من الحضريّ الذي تنحصر معلوماته في الحواضر وما جاورها".
وكان هؤلاء الأدلاّء مختلفين في طبائعهم. فمنهم من كان" خفيف الروح"، ومنهم من كان "ثقيل الظل". ومنهم من كان "ماهرًا ببيع معلوماته"، ومنهم من كان"مبالغًا في الوصف"، ومنهم من كان "مُقلّا مقتّرًا".
في الطائف التقى فؤاد حمزة ورافاق رحلته الأمير فيصل بن عبد العزيز الذي سيكون ملكًا في السبعينات من القرن الماضي. ومعه أمضوا سهرة بديعة تحت ضوء القمر تخللتها النكات والطرائف والحديث عن الشعر. يقول فؤاد حمزة إنه عاشر الأمير فيصل في بلاد التقاليد والتمدن، كما عاشره في الحجاز وفي نجد، فكان دائمًا "أمير المجالس أينما كان". وهو "متمدّن في بلاد التمدن، و"بدوي في البادية"، و"فارس مغوار بين الفرسان إن أطلقت للخيل اعنتها".
وفي تلك السهرة كان الأمير فيصل "محاكيًا للبداوة في سذاجتها، يشارك قومه ما هم فيه، فيشترك معهم في إيقاد النار، وشواء لحم الضأن على طريقة البدو". ويضيف فؤاد حمزة قائلًا: "من أراد نشاط البر، وطلاوة العيش الحرّ في الخلاء والقفر، فعليه بمجلس الأمير فيصل، ففيه الغذاء العقلي والجسماني".
في اليوم التالي انشغل فؤاد حمزة بالبحث عن المكان الحقيقي لسوق عكاظ الشهير. وبعد تحريات دقيقة توصل إلى أنه - أي سوق عكاظ - يقع في طرف ركبة الجنوبي - الشرقي بين أودية شرب والأخيضر والعرج وبين جبل المبعوث والخلص، ليس ببعيد عن بلدة الأخيضر.
وعند وصوله إلى آبار قرشية التي تبعد عن الطائف مسافة 55 كيلومترًا، يصف فؤاد حمزة البدوي على النحو التالي: "البدوي كالبعير قد يكون أولوفًا وقد يكون شرودًا. وقد يكون ظريفًا حاضر البديهة خفيف الظل أو يكون كسائر البدو جفاة عراة حفاة». ثم يضيف قائلًا: "ويشترك البدو في غريزة الخوف من القوى والحذر من المجهول، والطمع الشديد، وكثرة السؤال والإستيضاح من دون أن يمكّن البدوي مخاطبه من أخذ أخباره وكشف أسراره".
ويقول فؤاد حمزة إنه كان يخلط بين شجر السَّلَم والسّمَر والطّلَح، إذ إن جميعها من فصيلة "الأكاسيا"، وتتشابه جذوعها وسوقها وأغصانها وأوراقها وأزهارها تشابهًا عجيبًا .إلاّ أن بدويًا نبهّه إلى الفروق بينها قائلًا إنها تُفرّقُ بشوكها. فشوك السّلم دقيق وشوك السّمر أكبر قليلًا، وشوك الطّلح أكبرها".
لا يترك فؤاد حمزة منطقة بها إلاّ ويسجل جميع خصائصها آتيًا على بعض خصائصها التاريخية والجغرافية مسميًا أعيانها وأوديتها وجبالها وواصفًا تقاليد أهلها، وراويًا أساطيرها وخرافاتها. وهو يصف أهل قرية الحزم على النحو التالي: "مما يؤسف له أن حالة هذه البلاد الإجتماعية كحالة سائر البلدان المنعزلة عن العمران، لا تفكر في غير معيشتها المادية اليومية، وليست لها آمال أو أمانٍ بعيدة. يستغلون الأرض بعد حرثها، ويزرعون النخيل، وينتظرون لقاء الله في الآخرة. ومن هنا نشأ عدم اهتمامهم بالتغيير والتجديد".
وفي بلاد خيبر يلاحظ أن أهلها يحصنون بيوتهم خشية الغارات ومن انعدام الأمن الذي كان سائدًا قبل ولاية الملك عبد العزيز. وفي مزارعهم يبنونة القصبات الشبيهة بالمنابر فيها مخاريق لرمي العدو وصده.
يُطْنب فؤاد حمزة في وصف عسير، فلا يترك صغير أو كبيرة إلاّ وأتى عليها بدقة متناهية. ويعتر عيد الختان من أعظم الأعياد في منطقة عسير. ومن عادات أهلها أنه لا يجوز الختان إلاّ بعد البلوغ. وقد يختن أحدهم بعد أن يتجاوز سن العشرين.
ويعيّن للشبان الطالبين موعد الختان ومكانه. وإلى حفل الختان يدعى القوم رجالًا ونساء، وتنحر الأبقار والأغنام من ضأن وماعز. وقد سمع فؤاد أنه حدثت وقائع ختان كان الأولاد يحضرون فيها ختان أبيهم. ويتعيّن على الشاب حين يختن ألاّ تظهر عليه أيّ علامة من علامات الرهبة أو الفزع. فإن اختلجت ساقه عيّر بالجبن. ولدفع تهمة الجبن عنه، قد يقوم هذا الشاب بقتل من يحاولون إذلاله أو السخرية منه. لذلك يعتبر فؤاد حمزة الختان في منطقة عسير بـ"ضربًا من الوحشية الخطرة التي تتطلب الشيء العظيم من الشجاعة والجلد والصبر والألم". وقد يفضي إلى الموت أحيانًا.
التعليقات