ولاية ثالثة في رئاسة معهد العالم العربي إستهلها جاك لانغ في 5 مارس الماضي، مستكملًا بذلك عامه السابع في هذا المنصب. وفيما جمّدت جائحة كورونا النشاطات كافة، استطاع المعهد أن يدخل بيوت محبّيه عبر نشاطات متعددة تحت شعار "المعهد في المنزل".

"إيلاف" من باريس: معهد العالم العربي في باريس صرح ثقافي يُعرف بالحضارتين العربية والإسلامية، ويعد من أبرز المعالم الثقافية في العاصمة الفرنسية، يقصده السيّاح والفرنسيون على مختلف انتماءاتهم وثقافاتهم. قبل سبع سنوات، تسلم جاك لانغ رئاسة المعهد، وهو في حالة لا يحسد عليها: أزمة مالية مستعصية، تراجع في الأداء، وعزوف الزوار. كان رهانه إعادة الرونق إلى صورة المعهد وضخ الحياة في شرايينه المتهالكة.

جاك لانغ وزير ثقافة فرنسي سابقًا في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، وشغل أيضًا منصب وزير التربية، وتولى مناصب عدة في مجال الثقافة. أصدر أخيرًا كتابه "اللغة العربية كنز فرنسي".

استخدم لانغ شبكة علاقاته لجذب المشجعين والراعين ولتمويل المعارض التي عادة ما تشكل حدثًا ثقافيًا في العاصمة الفرنسية، فقفز عدد الزوار من 616000 في عام 2013 إلى مليون زائر في عام 2014 مع لوريان إكسبرس، لكن تراجع الرقم إلى 750 ألف زائر في عام 2019.

"إيلاف" إلتقت لانغ، فكان حديثًا في الثقاقة وأحوال المعهد اليوم وغدًا:

تم التجديد لكم في رئاسة المعهد للمرة الثالثة بأمر من الرئيس إيمانويل ماكرون. فهل كان هذا نزولًا عند رغبتك؟

نعم. رغبت في أن أكمل المشروع المتعلق بتعليم اللغة العربية، وأنا كلي ثقة بمؤهلات ندى يافي التي تشرف على المشروع. ما نسعى إليه هو اعتماد نظام تقييم التمكن باللغة العربية، ووضعها في مصاف اللغات العالمية، ومنح شهادة الإتقان تمامًا كما هي الحال مع "توفل" للغة الإنكليزية. أنا متمسك بالذهاب بهذا المشروع إلى أبعد حد، وتم الانتهاء من مرحلة الإعداد والنظام في طور التبني من قبل المؤسسات والجامعات في فرنسا وأوروبا والدول العربية. النظام موجّه إلى كل الفئات العمرية والشرائح التي تود التأهل لتعلم اللغة العربية، خصوصًا الذين يحتاجونها في عملهم، أو بدافع حب هذه اللغة، أو الطلاب الذين يقبلون على تعلم العربية وهؤلاء أيضًا يأتون من أصول مختلفة. هذا الإستثمار مكلف، وأنا في صدد البحث عن دعم مالي في هذا المجال.

تقربنا من الشباب

تبوّأت منصب رئاسة المعهد، وكان في حالة سيئة، وقلت يومها إنك تريد أن تجذب الشباب من كل الأصول، وخاصة أبناء الضواحي من أصول عربية، لكي يتعرفوا إلى حضارتهم، وتكون مصدر فخر لهم.

نعم، أن يعتزوا بثقافتهم، لكن من دون أن ينغلقوا على أنفسهم، في قلب ثقافة واحدة. هؤلاء الشباب يعتزون بهذه الثقافة، والمعهد يستقبل العديد من النشاطات والأحداث الثقافية التي تفسح المجال أمامهم، والتي نمّت شعورهم بالانتماء إلى هذا الصرح، على غرار ليلة الشعراء التي تستمر من السابعة مساء حتى السابعة صباحًا، فنسمع خلالها أصوات الشعراء حول إعتداءات الباتاكلان. وهذا حدث يلاقي إقبالًا عند الشباب.

وهناك الحفلات التي تستقبل الموسيقى الاكترونية (أرابيك صاوند سيستم) حيث نستقبل "دي جي" من أصول عربية. هذا الحدث يستقطب العدد الكبير من هذه الفئة الشابة. هذا إلى جانب عيد الموسيقى، والمعرض الذي لاقى إقبالًا واسعًا، وكان بعنوان "كرة القدم في العالم العربي". هذا الحدث جذب الكثير من الشبان، خصوصًا أنه تزامن مع بطولة أفريقيا للأمم. وتم نقل المباريات على شاشة عملاقة في باحة المعهد، وكانت المباراة النهائية بين الجزائر والسنغال، حيث استوعبنا بين 6 إلى 7 آلاف شاب وشابة.

اجتاز المعهد مرحلة كان لا يعكس فيها تطلعات هذه الفئة. كيف عملت على تنشيط العلاقة معها وقلب المعادلة من حيث نسبة الإقبال وعدد الزيارات؟

صحيح. كان المعهد ذات طابع جاد، وكان معظم الإقبال من الفئات العمرية المتقدمة. أول ما قمت به هو إزالة العوائق بيننا وبين الشباب. وتوجهنا إلى الفئات الشابة على مستوى تطلعاتها واهتماماتها، فباتت صورة المعهد أقرب إلى اهتماماتها. بالطبع، زوار المعهد من الفئات والمنابع والأصول كافة إلى جانب العديد من السيّاح.

راهنوا على الثقافة

كيف عملت لتصحيح موازنة المعهد بعدما كانت عقدة شائكة؟
كنت مصممًا على تصحيح الموازنة والوضع المالي؛ إذ رفضت على الدوام في كل المؤسسات الثقافية التي توليت إدارتها، إلا أن تكون في وضع مالي متعاف وصحي. العجز المالي يعكس صورة سيئة، وكأننا في حال استجداء واستعطاف، وهي صورة سلبية تؤثر في نشاط المعهد وصورته. السبيل إلى تحقيق التوازن كان إلغاء بنود الإنفاق غير الضرورية، وتوفير بعض الأموال وجمع بعض المبالغ من المتبرعين المشجعين، وتلقي الدعم من بعض الدول. ويجب عدم إغفال أن المعارض تدرّ الأموال، ولدنيا بعض المداخيل.

المعهد استعاد صحته، وبات يعكس صورة المؤسسة الحيوية، وهي صورة إيجابية. استعاد المعهد رونقه، وأنا مصمم على أن تستمر هذه البصمة وتتعمق، حيث استعدنا ثقة بعض الدول العربية والكثير من الزوار. أتمنى الحفاظ على هذا التحول بشكل دائم. المكتبة تضم أجمل المجموعات التي تلقى الكثير من الاهتمام، ونحن نعمل دومًا على إغنائها بأعمال ومصادر وكتب من المستويات كافة.

قلت دائمًا إن الاستثمار بالثقافة مشروع مربح على الصعيدين المالي والمعنوي...
نعم، ولم أبدّل رأيي، وأنا أدافع في كل مكان عن الاستثمار في الثقافة. هذا الاستثمار يجب أن يحظى بالأولوية في كل بلد. فالثقافة تحقق الانسجام وترقى بالفكر وتتيح للشباب فرصة الوصول إلى الثقافة، كما إنها مصدر انسجام وترابط اجتماعي. يمكن القول إن الاستثمار في الثقافة هو مصدر دخل لا يستهان به لأي بلد، أو لأي مدينة، والأمثلة على ذلك كثيرة، حيث يمكن القول كيف استطاعت المشروعات الثقافية أو المتاحف تحويل صورة بعض المدن بعد هجرة المصانع التي كانت تشكل مصدر رزق أهلها، وأفلست تمامًا بعد إغلاقها، لكنها ولدت من جديد واستعادت رونقها ونشاطها بفضل متحف ما أو مركز ثقافي، كما حصل في بيلباو في إسبانيا، وغيرها. الثقافة تحسن صورة المدينة والمدن التي راهنت على الثقافة كسبت رهانها.

انبهروا بجمال العلا

كيف كان الإقبال على المعرض عن منطقة العلا السعودية؟
المعرض حول العلا تم تمديده قبل الحجر نظرًا إلى إقبال الجمهور الواسع، حيث زاره ما يزيد على مئة ألف زائر. والذين شاهدوه انبهروا بجمال الأماكن التي يكشف عنها والمعالم في صحراء الربع الخالي. اليوم معظمهم يتحين الفرصة لزيارة هذه الأماكن. قدم المعرض صورة إيجابية عن المملكة العربية السعودية التي تشهد ثورة ثقافية شاملة، وتغيّر فيها نمط حياة الشباب كله.

من مشاريعنا بعد الحجر كوكبة من الأعلام الفنية العربية كالمطربات أم كلثوم وفيروز ووردة الجزائرية، ثم عن طريق الحرير، والعطور في الشرق.

كيف تعملون للتعريف بنشاط المعهد خارج فرنسا؟
نسعى إلى أن يحضر المعهد في العالم العربي وفي سائر مدن فرنسا كما هي الحال مع المعهد في مدينة لومان، وفي بلدان أخرى، وأن تتجول المعارض التي ننظمها في بقاع أخرى. مثال على ذلك المعارض عن تدمر والموصل وحلب والمدن الألفية. ستجول هذه المعارض في السعودية وأوروبا (ألمانيا)، وفي واشنطن، ما سيشكل حدثًا مهمًا في أكتوبر المقبل. كما لدينا كنوز الإسلام في أفريقيا، في الرباط، ولوريان إكسبرس، سيكون في سنغافورة في يونيو 2020. ثمة مشروعات كثيرة يقدم عليها المعهد. والأهم هو الخروج من هذا الوباء اللعين.