ايلاف من الرياض: تفتح الفلسفة نوافذ العقول المغلقة وتنير كهف الروح المتشحة بالسواد؛ إذ إنها الدهشة التي جعلت الإنسان يغرق في جدلية السؤال والجواب بحثاً عن تفسير حقيقي يزيل الغشاوة عن عينيه ليدرك كُنْهَ الأشياء مثل سر الطبيعة والمعرفة والوجود الإنساني.

تشير الدراسات إلى أن هذا العلم وحده يهدي الإنسان قابلية أعلى للتفكير المنطقي، إضافة إلى أنه يساعد في تنشئة مجتمع إنساني فاضل يهتم بقيم المساواة والحرية، كما تشعر الأخرين بالوعي بالعالم والموجودات وغايتها وذلك يسهم في رقي الإنسان وازدهاره.

خطوة تاريخية

تغيرت خصائص الحياة الثقافية السعودية تدريجياً وبصورة لافتة في الأعوام الماضية، وأخذ ذلك التغيير منحنى تصاعدياً شمل جميع مناحي الحياة ويعود الفضل في حجم التحول الملموس إلى سلسلة إصلاحات أنتهجتها الحكومة السعودية.

في السياق ذاته، يعد قطاع التعليم من أهم القطاعات التي شابتها أوجه التغيير السريعة وذلك بإدخال منهج الفلسفة في ميدان التعليم، الأمر الذي قوبل بترحيب واسع من قبل الأوساط الفكرية والثقافية لأثره في تعزيز الجوانب العقلانية والنقدية، خصوصاً أن الفلسفة ظلت مرفوضة في السعودية كما حوربت فيما مضى لأسباب سطوة المؤسسة الدينية.

فبعد الخطاب الراديكالي الرافض لتدريس الفلسفة، أسبغت المملكة طابع رسمي لها، إذ تعكف وزارة التعليم السعودية على إعداد مناهج دراسية متخصصة في التفكير النقدي وعلم الفلسفة، لتنمية مهارات التفكير الناقد والفلسفي في المواقف الحياتية المختلفة لدى الطلاب إلى جانب قيم التسامح وحرية التفكير.

وامتداداً للانفتاح الثقافي الذي تعيشه المملكة ونتيجة الحراك الفلسفي الدؤوب، أسس مثقفون سعوديون أول جمعية فكرية تعنى بالطرح الفلسفي وصُرح لها من قبل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، بدعم وتأييد ومباركة وزارة الثقافة.

وأستبشرت الأوساط الثقافية خيراً في هذا الشأن إذ تطمح الجمعية في تحفيز المجتمع بكافة أطيافه على القراءة الفلسفیة إضافة إلى توفير بیئة ثقافیة حاضنة لهذا العلم.

وتعد الموافقة على تأسيس جمعية الفلسفة تعزيزاً للخطوات الإصلاحية التي تبنتها المملكة أخيراً إضافة إلى رؤية أعتماد وزارة التعليم للمقررات الفلسفية في التعليمين العام والعالي.

من جهته أبدى الفيلسوف السعودي شايع الوقيان، العضو المؤسس في حلقة الرياض الفلسفية "حرف" تفائله بمستقبل الفلسفة في الثقافة السعودية، خصوصاً مع الروح التجديدية التي تغمر البلاد، حينما سألته " إيلاف" عن قراءته للمشهد الفلسفي السعودي بعد حالة الرفض السابقة

مضيفاً إن هناك حضور قوي للفكر الفلسفي في المشهد الثقافي السعودي في العقدين الأخيرين، ويمكن القول إننا نحن في مرحلة وضع البذور، وما فات كان مرحلة حرث للأرض بحسب وصفه.

ويضيف الوقيان في حديثه لـ "إيلاف" أصبح المتلقي السعودي الآن مهيأ لاستقبال الفلسفة، وأعتقد أننا تجاوزنا النظرة السلبية لها، لاسيما فيما يتعلق بعلاقتها بالدين، لكن هذه البذور لن تؤتي ثمارها ما لم تتأصل الفلسفة في حقل التعليم "العالي والعام" ولا يكفي حضورها في الحقل الثقافي.

وحول كيفية تعزيز مفهوم " الصحة الفكرية لدى الفرد نتيجة إدخال منهج الفلسفة في التعليم، أجاب الفيلسوف الوقيان أنه إذا كانت الصحة الفكرية تعني القدرة على النقد والتحليل والإبداع العقلي فإن الفلسفة من أهم المناهج الكفيلة بتوفير هذا الجانب.

ويذهب الوقيان بالأعتقاد أن منهج الفلسفة قد يتخلى عن كل شيء إلا العناية بالفكر النقدي والتحليلي الرصين، مضيفاً أن منهج الفلسفة يتمتع بقدرة كبيرة في عصمة عقول النشء من الانزلاق في اللامعقول والآراء المجانفة للصواب كالتطرف والتعصب والإرهاب، مضيفاً أنه إذا كان جسد الإنسان يكتسب قوته بالرياضة البدنية فإن عقل الإنسان يصبح قوياً وناضجاً بالفكر الفلسفي.

نغمة الفلسفة في السعودية

عزف المهتمون السعوديون أوتار النغمة الفلسفية الأولى منذ وقت طويل. تلك النغمة القائمة على إذكاء روح النقد بدأت بشكل فردي متبوعة بشغف أرباب العلم في هذا الحقل المعرفي الذي تنتهي إليه جميع مجالات المعارف الإنسانية.

إذ أسس المهتمون حلقة الرياض الفلسفية" التي تعرف أختصاراً بـ " حرف " عام 2008 في وقت ما تزال السعودية تعاني فيه من تيار الصحوة المنغلق.

يصف من عايش تلك الفترة وما قبلها أن كتب الفلسفة لم تكن متوفرة كما هو الحال اليوم، إذ كانت تعد من المحظورات والحديث عنها أشبه بالمحرمات، إضافة إلى عدم وجود أنشطة ثقافية مشتغلة بالفلسفة، كما أنها مغيبة تماماً في الفضاء المعرفي السعودي في تلك الحقبة.

فيما تزخر رفوف مكتباتنا في الوقت الحاضر بالكتب الفكرية التي تحث على الشك والتفكير وإعمال قوى العقل وتحليل المغالطات، كما أن دخول الإنترنت والمنتديات الثقافية التي شكلت باحة حوار، أمراً أضاف هالة ناعمة من التغيير لتتضح بعدها ملامح خارطة معرفية لمجتمع المملكة .

ولحق مهتمون آخرون بالركب أسوة بغيرهم وذلك بتأسيسهم "إيوان الفلسفة" تحت مظلة النادي الأدبي الثقافي في جدة، في عام 2018 ويهدف الإيوان إلى خلق فضاء للتلقي وتبسيط الفلسفة إلى جانب تقديم المحاضرات و ورش عمل في التفكير النقدي.

غياب الفلسفة منبعاً معرفياً رافداً

لم تكن الفلسفة كمنبعاً معرفياً رافداً ممنوعة بشكل مؤسسي في البلاد. غير أن علة التحريم والتوجس الديني من الفلسفة برزت في حقبة تاريخية من تاريخ المجتمع السعودي نتيجة الأطر الفكرية المكتسبة من رؤى فقهية متشددة تحرم تعليم الفلسفة وعلوم الكلام بسبب خطاب الجماعات الدينية المتشددة مثل تيار " الإخوان المسلمين" و غيرهم من الدوغمائيين.