إيلاف من اسطنبول: قبل يومين وصل الشاب "م. ي" إلى المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل "الجيش الوطني السوري" في شمال سوريا قادما من مدينة حمص الخاضعة لسيطرة النظام السوري، عبر طرق "التهريب"، التي تنشط الحركة عبرها ومنذ أكثر من عام، بصورة غير مسبوقة.

حالة الشاب الذي عرض موقع "الحرة" قصته هي واحدة من بين آلاف الحالات التي تمر عبر هذه الطرق الداخلية بشكل شبه أسبوعي، وتصاعدت وتيرتها في الأشهر الثلاثة الماضية، مع غياب أي أفق لانقشاع غمامة الأزمة الاقتصادية في مناطق النظام السوري، وما يوازيها من الممارسات الأمنية وحملات الدهم والاعتقال، التي تستهدف المطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياطية.

يقول "م. ي" الذي طلب عدم ذكر اسمه كاملا إن عملية تهريبه من حمص كانت "سلسلة إلى أبعد الحدود ضمن المناطق التي تخضع لسيطرة النظام السوري"، ويوضح: "الطريق كاملا تم عبوره بسيارة خاصة لمهرب (تحفظ على ذكر اسمه) يحمل بطاقة أمنية تتبع لفرع المخابرات الجوية. انطلقنا من الكراج الجنوبي لحمص، ومن ثم اتخذنا الطريق المار من مدينة سلمية وصولا إلى خناصر بريف حلب".

بعد ذلك، يتابع الشاب: "انتقلت لسيارة أخرى أوصلتني إلى نقطة محاذية لسيطرة فصائل الجيش الوطني بالقرب من مدينة الباب بريف حلب. هنا استقبلني شخص آخر على معرفة بالمهرب الأول، وأدخلني إلى الباب بعد أن استلم مبلغا ماليا اتفقنا عليه في البداية بـ 800 دولار أميركي"، بحسب "الحرة".

وجهتان

ورغم أن طريق التهريب المذكورة تنحصر بين منطقتي نفوذ داخل سوريا (النظام، المعارضة)، إلا أن هناك طرقا أخرى تمر بمناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، لكنها أكثر خطرا، وتعرض فيها العشرات من الشبان للاعتقال من الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد.

ويبدأ الطريق الآخر من مناطق سيطرة النظام بمختلف توزيعاتها إلى منطقتي نبل والزهراء التي تسيطر عليها ميليشيات موالية لإيران، ومن ثم إلى المناطق التي تسيطر عليها "قسد" في "جيب تل رفعت"، وصولا إلى منطقة عفرين، الخاضعة منذ ثلاثة أعوام لسيطرة "الجيش الوطني" المدعوم من تركيا.

وكانت فصائل "الجيش الوطني" قد أعلنت في مرات عدة القبض على أشخاص قادمين من مناطق سيطرة النظام السوري، وحاولوا الدخول عبر طريق التهريب إلى منطقة عفرين.

وبالعودة إلى شهر نوفمبر 2020 كانت "فرقة الحمزة" التابعة لـ "الجيش الوطني السوري" قد اعتقلت عشرات الأشخاص الفارين من مناطق سيطرة نظام الأسد، في ناحية الباسوطة بريف عفرين.

وذكرت تقارير لشبكات محلية في ذلك الوقت أن الفرقة المذكورة خيّرت الأشخاص الذين اعتقلتهم بدفع مبالغ مالية للإفراج عنهم، أو إعادتهم إلى النقطة التي دخلوا منها، والخاضعة لسيطرة النظام.

وأوضحت التقارير، بينها ما نشره "موقع نداء بوست" المحلي، أن عدد مَن تم إرجاعهم من الأشخاص يتراوح بين 50 و60 شخصا، فيما لم يتضح عدد مَن تم إطلاق سراحهم مقابل المال، وما يزال مصير الباقين بمن فيهم الفتاة مجهولا حتى الآن.

من جانبه أشار الشاب الذي وصل إلى ريف حلب منذ يومين في سياق حديثه لموقع "الحرة" إلى أن الطريق الذي يمر من نبل والزهراء متوقف في الفترة الحالية، على خلفية اعتقال الأفرع الأمنية للنظام السوري عددا من الأشخاص، في أثناء محاولتهم الانتقال إلى منطقة عفرين.

ويضيف الشاب: "الطريق المار من نبل والزهراء ترعاه بشكل أساسي ميليشيات مرتبطة بإيران، وأخرى محسوبة على حزب الله اللبناني. المهرب الذي أوصلني إلى ريف حلب أخبرني بخطورة هذا الطريق وتبعات العبور من خلاله في بداية الاتفاق".

شبكة واحدة

لا ينفصل عمل المهربين بين مناطق النفوذ داخل سوريا، بل يعتمدون على أسلوب عمل مترابط، في مفارقة لطبيعة الأطراف التي تسيطر على المناطق التي يهربون البشر منها وإليها.

الصحفي، محمود طلحة، اعتبر أن عمليات التهريب التي تتم من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة تتم من خلال "شبكة مهربين واحدة".

ويقول طلحة المقيم في ريف حلب في تصريحات لموقع "الحرة" إن عمليات التهريب لا تقتصر على نقل الشبان إلى الشمال السوري، بل يتبعها في عدة حالات عمليات تهريب إلى داخل الأراضي التركية، ومن ثم إلى اليونان.

يؤكد طلحة: "منذ أسبوع توقفت طرق التهريب المارة من بلدتي نبل والزهراء، بسبب القبضة الأمنية التي تمارسها الأفرع الأمنية التابعة للنظام على هذه المنطقة. رغم تولي الميليشيات الإيرانية عمليات التهريب، إلا أنها تصطدم بتشديد أمني من النظام".

ويشير الصحفي السوري إلى "غرامات مالية" تفرضها أفرع النظام الأمنية على الأشخاص، الذين تثبت نيتهم الهروب إلى الشمال السوري، ويتابع: "الغرامات لم يصدر فيها قرار رسمي لكن عدة حالات أكدتها بعد خروجها من المعتقل".

مافيا ضمن قطاعات

تواصل موقع "الحرة" مع أحد ضباط "الشرطة العسكرية" في منطقة عفرين، وأكد عمليات التهريب المستمرة من مناطق النظام السوري.

وتعتبر "الشرطة العسكرية" أحد الأجهزة الأمنية التابعة لفصائل "الجيش الوطني السوري"، وتشرف عسكريا وأمنيا على عدة قطاعات في مناطق "درع الفرات" ومنطقة عفرين في ريف حلب.

تحدث الضابط (برتبة رائد) عن "شبكة ممتدة مثل المافيات التي تقسم عملها ضمن قطاعات".

ويقول: "هناك عدة خطوط للتهريب إلى شمال سوريا. الأول من لبنان باتجاه مناطق النظام، وصولا إلى الشمال السوري، وبعد ذلك إلى تركيا ودول أوروبا".

أما الخط الآخر فيعبر من مناطق سيطرة "قسد" باتجاه مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، لغاية الدخول إلى الأراضي التركي، سواء للاستقرار فيها أو الخروج فيما بعد إلى اليونان عبر طرق التهريب أيضا.

ويضيف الضابط: "الجيش الوطني ليس شريك في هذا الأمر، لكن هناك بعض الأشخاص المنتفعين، والذين يقومون بتسهيل هذه العملية ضمن عمليات تهريب من بعض النقاط، سواء إلى ريف حلب أو محافظة إدلب، التي تديرها حكومة الإنقاذ السورية".

وأشار الضابط الذي فضّل عدم ذكر اسمه إلى أن بعض الأشخاص الذين تم القبض عليهم في منطقة عفرين كشفوا خلال التحقيق معهم عن ضلوع شخصيات مقربة من "حزب الله" اللبناني في عمليات التهريب من بلدتي نبل والزهراء.

من جميع الدول والمحافظات

عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة "فيس بوك" ينشر أشخاص غير معروفي الهوية بين الفترة الأخرى عروضا لتهريب البشر من لبنان إلى سوريا وصولا إلى تركيا، وبالعكس في بعض الأحيان، ويوثقوا حديثهم بوضع أرقام للتواصل معهم.

وفي منشور لأحد الأشخاص على مجموعة خاصة باسم "مستعمل ريف حلب الغربي" قال إن هناك طرق للتهريب "جميع الدول والمحافظات السورية من مناطق سيطرة النظام. إلى إدلب ومن ثم تركيا واليونان، بالإضافة إلى طرق تهريب من لبنان إلى تركيا".

تواصل موقع "الحرة" مع أحد هؤلاء الأشخاص أصحاب عروض التهريب بصفة "شاب يريد الانتقال من لبنان إلى شمال سوريا الخاضع لسيطرة فصائل المعارضة".

وقال المهرّب (نتحفظ عن ذكر اسمه) إن التهريب من لبنان إلى ريف حلب ممكنا "ومضمون 100 بالمئة. العملية تكلف كاملة 1400 دولار أميركي من لبنان وصولا إلى مدينة اعزاز في ريف حلب الشمالي".

لم يكشف المهرب عن طريقة الدخول من لبنان إلى سوريا، "حفاظا على العمليات المقبلة والمستمرة".

لكنه أضاف: "كل العملية تهريب وخط عسكري. بعد الدخول من لبنان إلى حمص أرسل لعائلتك تسجيلا مصورا لكي يطمئنوا. وفي المحرر (ريف حلب) أرسل لهم أيضا تسجيلا مصورا بعد الوصول".

وأشار المهرب إلى أن الطريق من لبنان إلى اعزاز في ريف حلب يستغرق ثلاثة أيام، وزاد: "كل يوم لدينا ركاب. وأمس (الاثنين) وصلت دفعة".

خط عسكري آمن

ويصل عدد المعابر الرسمية بين لبنان وسوريا إلى خمسة معابر رسمية، و124 معبرا غير شرعي، وعبرها تتم عمليات تهريب واسعة، بحسب بيانات المجلس الأعلى للدفاع اللبناني.

وفي ظل علم السلطات الرسمية بوجود هذه المعابر، يثار التساؤل حول الجهات التي تقف خلف هذه الرحلات، وكيفية عمل هؤلاء المهربين؟

وسبق وأن أشار مهرب يعرف باسم "أبو محمد"، (لبناني الجنسية على حد قوله)، في اتصال مع موقع "الحرة"، إلى أنّ "غالبية رحلات النقل من لبنان تتوجه نحو منطقة القصير القريبة من الهرمل وبعلبك لتجاوز الحاجز الحدودي اللبناني.

وتابع المهرب: "من ثم الانطلاق إلى أي منطقة ومحافظة في سوريا، فالخط آمن للسيارات ذات اللوحات اللبنانية المعروفة من قبل العناصر (يقصد تلك التابعة للجيش السوري)".

وأضاف "أبو محمد": "لدينا رحلات من بيروت مرورا بإدلب (شمالي سوريا) وصولا إلى تركيا، خط عسكري وسريع، وحتى رحلات تهريب إلى اليونان".

آسيويون من لبنان

في سياق ما سبق كان لافتا في أواخر العام الماضي إعلان وزارة الداخلية في حكومة نظام الأسد القبض على 16 آسيويا دخلوا سوريا بطريقة غير شرعية، متوجهين نحو تركيا.

جاء ذلك في بيان نشرته قناة "الإخبارية السورية"، في الثالث من أكتوبر 2020، وقالت إن عملية إلقاء القبض تمت في مدينة حلب، وعرضت صورا للآسيويين، معظمهم من بنغلادش.

وفي سياق حديثه كشف الضابط في "الشرطة العسكرية" بريف حلب عن اعتقال 60 شخصا من جنسيات آسيوية وأفريقية، خلال الأشهر الماضية، في أثناء محاولتهم الدخول إلى منطقة عفرين عبر طريق التهريب، الواصلة إلى بلدتي نبل والزهراء.

وأضاف الضابط: "الجنسيات من بنغلادش وإثيوبيا والسودان. خلال التحقيق قالوا إن وجهتهم الأولى هي لبنان، ودخلوا إلى الأراضي السورية بسيارات خاصة على دفعات".

إلى ذلك كانت وزارة الداخلية في حكومة النظام السوري قد نشرت بيانا أيضا في الخامس عشر من أكتوبر 2020، أعلنت فيه القبض على 5 أشخاص في مدينة حمص، يقومون بتهريب السوريين إلى بلد مجاور.

وجاء في البيان: "بالتحقيق معهم اعترفوا بإقدامهم على تشكيل عصابة تمتهن تهريب الأشخاص إلى بلد مجاور، حيث يقومون بإحضار الأشخاص المراد تهريبهم خارج القطر بالتنسيق مع أحد سائقي السيارات العامة".

وتابع البيان: "بعد يتم وضع الأشخاص في منزل السائق، ثم يتم نقلهم على دفعات على متن دراجات نارية يستقلها شخصين من أفراد العصابة لقاء مبلغ عشرين ألف ليرة سورية عن كل شخص".