إيلاف من دبي: تستمر صدامات القدس الأعنف منذ 4 أعوام على الأقل، لتدخل أسبوعا جديدا، دون أي إشارة لنهاية قريبة أو سيناريو للحل، حيث تأتي الدعوات التهدئة من كل الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبابا الفاتيكان، والدول العربية المطبعة حديثا مع إسرائيل مثل الإمارات، لكن تلك الدعوات لم تجد صدى على الأرض، بحسب تقرير نشره موقع "الحرة".

الصدام اشتعل بسبب حكم قضائي إسرائيلي بإخلاء عدة بيوت تابعة لحي الشيخ جراح في القدس من سكانها الفلسطينيين، لكن دلالته أكبر من ذلك، فالحكم في نظر فلسطينيين "حلقة جديدة من حلقات تهويد المدينة واجتثاث العرب منها"، وهو في نظر الإسرائيليين "عنوان لاحترام القانون والقضاء" ويأتي ضمن خطوات طبيعية في بناء وتطوير عاصمتهم، كما جاء في تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.

ما هو أصل النزاع؟

تحوي اللغة العبرية لفظا يحمل معنيين: نحلات (Nahalat)، والتي قد تعني "التراث" أو قد تعني "الإرث" و "الملك"، فيقال مثلا "نحلات بنيامين" أي إرث أو "ملك بنيامين"، وهو اسم شارع في تل أبيب، أو "نحلات إسحق" وهو حي في المدينة ذاتها.

ومن ضمن "النحلات"، نحلات شمعون، وهو الاسم الذي يطلقه الإسرائيليون على حي في القدس الشرقية، يقولون إنه تأسس في العام 1891 على يد مدارس تلمودية اشترت الأرض وبنت عليها سكنا لليهود اليمنيين الفقراء.

ونحلات شمعون تقع في منطقة يسميها الفلسطينيون أيضا حي الشيخ جراح، على اسم الأمير حسام الدين بن شريف الدين عيسى الجراحي، طبيب صلاح الدين الأيوبي، حيث يقع مقامه.

في حين أن الحي له جذور تاريخية عميقة تعود للقرن الثاني عشر، فإن نشأته الحديثة تعود إلى عام 1956 بموجب اتفاقية بين الحكومة الأردنية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). كان الهدف من الاتفاقية هو توطين 28 عائلة فلسطينية في وحدات سكنية بالحي، مقابل استغناء تلك العوائل عن بطاقات اللاجئين والإعانات الخاصة بهم من المنظمة الأممية، بحسب تقرير "الحرة".

لكن الحكومة الأردنية لم تمنح وثائق ملكية أراضي تلك الوحدات السكنية للعوائل المستفيدة حتى خسرت عمّان سيادتها على القدس على خلفية حرب عام 1967 التي سيطرت فيها إسرائيل على المدينة، في خطوة أثارت جدلا دوليا.

ويقول الإسرائيليون أن جالية يهودية صغيرة تعيش في المنطقة قبل عام 1948، ويؤكدون أنهم اضطروا لإخلاء الحي من سكانه الأصليين خلال تلك الفترة بعد تصاعد العنف مع العرب، ما أبقى الأراضي فيه فارغة دون سكان لأعوام.

والحي ذاته الذي يسكنه العرب حاليا، لا يزال يقصده مئات اليهود المتدينين يوميا للصلاة في مغارة "شمعون الصديق"، في وقت تقود فيه جمعية "نحلات شمعون" اليهودية سلسلة من الدعاوى القضائية لإخلاء منازل الفلسطينيين في هذه المنطقة.

في 1970، أقر البرلمان الإسرائيلي قانونا يعيد إلى اليهود الذين كانوا يملكون الأراضي قبل قيام الدولة، فيما قالت جمعيات يهودية إن ملكية أراضي الحي تعود لها وفقا لقانون الكنيست.

ورفعت جمعيات يهودية "استيطانية"، دعاوى ضد 24 عائلة للمطالبة بإخلاء منازلهم عام 1982، لكن أول قرار إخلاء صدر ضد عائلتين فلسطينيتين عام 2002 بعد 11 عاما من توقيع محاميي الطرفين اتفاقية "توسيا كوهين" التي تقر بملكية الأراضي للجمعيات اليهودية، وهو اتفاق يرفضه المتضررون ويطالبون بإلغائه باعتبارهم يرفضون التنازل عن ملكيتهم للأراضي وأن محاميهم تصرف من تلقاء نفسه.

وفي 2008 أجبر عائلة الغاوي الفلسطينية على إخلاء المنزل لصالح مستوطنين يهود، قبل القرار الأخير الصادر العام الماضي والذي يطالب 7 عوائل أخرى بالخروج من منازلهم.

تباين في تطبيق القوانين

ويرى أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية، الدكتور منذر الدجاني، أن قرار المحكمة الإسرائيلية بإخلاء المنازل في حي الشيخ جراح لا يستند على مسوغ قانوني.

وقال الدجاني لموقع "الحرة" إن إسرائيل لديها تباين في تطبيق القوانين، خصوصا في قضية الحي، باعتبار أن الفلسطينيين يعيشون في هذه المنازل منذ 70 عاما.

وأضاف: "هناك قانون في إسرائيل يعطي الشخص أحقيته في امتلاك أي عقار مهجور شرط أن يدفع رسوم الكهرباء والماء لمدة سنة. أبناء حي الشيخ جراح يعيشون منذ الخمسينات في تلك المنازل".

وأشار الدجاني إلى أن "المؤسسة التي تقاضي الفلسطينيين في حي الشيخ جراح هي ذاتها التي تعمل في باب الخليل عبر اتجاه واحد لربط المستعمرات ببعضها البعض في القدس".

وتابع: "المؤسسة اليهودية تستهدف مجموعة معينة لاعتبارات جغرافية، حيث ترغب بربط المستعمرات في القدس، إضافة إلى ربط حارة اليهود بالقدس الغربية في منطقة باب الخيل".

وإذا رفضت المحكمة العليا استئناف العائلات الفلسطينية على قرار الإخلاء، من المرجح أن يتم استبدالهم بقوميين يهود يمينيين يقولون إن المنازل الفلسطينية بنيت على أراض مملوكة للجمعيات اليهودية قبل إقامة دولة إسرائيل.

يقول الدجاني إنه لا حل لهذه المشكلة سوى في "إنهاء الاحتلال" حسب وصفه، مرجحا أن يشتعل الصراع بشكل أكبر في الأيام المقبلة، خصوصا وأن الشباب الذين يواجهون القوات الأمنية الإسرائيلية في القدس، يعيشون ظروفا سيئة.

وأبدت الولايات المتحدة قلقها إزاء العنف والتهديد بإخلاء حي الشيخ جراح، وقالت إنها على اتصال بالقادة من كلا الجانبين لمحاولة تهدئة التوترات.

وأضافت وزارة الخارجية الأميركية في بيان "من الأهمية بمكان تجنب الخطوات التي تؤدي إلى تفاقم التوترات أو تبعدنا عن السلام (...) وهذا يشمل عمليات الإخلاء في القدس الشرقية، والنشاط الاستيطاني، وهدم المنازل، والأعمال الإرهابية"، بحسب تقرير "الحرة".

وقال الدجاني إن الشباب الفلسطيني في القدس يشعر بالإحباط وعدم الرضا نتيجة عدم وجود سلطة تحميه أو قانون يقف إلى جانبه، مردفا: "يعتقدون أن حقوقهم لن يحصلوا عليها إلا بأيديهم وهذا يفاقم الأمور".

القدس للجميع

في المقابل، قال المحلل السياسي الإسرائيلي، غولان برهوم، لموقع "الحرة" إن "الوجود العربي الكريم في القدس قائم"، ولكن في نهاية المطاف "هذا قرار محكمة ويجب أن يحترم باعتبار أن إسرائيل دولة ديمقراطية".

وأضاف: "المدينة المقدسة متنوعة عرقيا ودينيا واجتماعيا، لكن السيادة السياسية للسلطات الإسرائيلية، ولا نقبل بوجود أجندات سياسية فلسطينية في القدس".

وقال إنهم "يريدون السكان العرب يقتربون من الإسرائيليين. من مصلحتنا جميعا أن نرى القدس موحدة للجميع".

وبينما، أكد وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، حرية العبادة في الأماكن المقدسة للجميع، قال رئيس الوزراء المكلف، بنيامين نتانياهو، إن أعمال العنف التي شهدتها القدس "حدثت بسبب جهات فلسطينية محرضة".

وأضاف نتانياهو: "نحن نطور القدس في كل المجالات، بما في ذلك تطوير البنية التحتية والعلوم والتكنولوجيا المتقدمة والتراث والثقافة والفن. ونحن نصد بصرامة الضغوطات المتزايدة لمنع البناء في القدس"، مردفا: "أقول لأعز أصدقائنا أن القدس هي عاصمة إسرائيل ومثلما يبني كل شعب عاصمته فلنا حق في بناء عاصمتنا".

في المقابل، قال غانتس إنهم "ملتزمون بضمان حقوق وأمن جميع مواطني إسرائيل - يهود ومسلمين ومسيحيين وشركس - وحرية العبادة لجميع الشعوب في الأماكن المقدسة"، مردفا: "أؤكد أن دولة إسرائيل ستحافظ على حرية العبادة في الأماكن المقدسة للأبد، وتعمل ضد عناصر متطرفة وكل من يحاول -من دوافع- داخلية أو خارجية، أو سياسية أن يمس بنا".

من جانبه، يرى برهوم أن أسباب تصاعد العنف في القدس هو "فشل السلطة الفلسطينية في إقامة انتخاباتها بعد شعور فتح ومحمود عباس أنها ستخسر لصالح حركة حماس"، موضحا أن "السلطة تستغل مأزقها السياسي وفضيحة التأجيل أو بكلمة أخرى إلغاء الانتخابات لإشعال فتيل العنف في القدس".

وتابع: "يؤسفني القول إن المتضرر من هذا الصراع هم الفلسطينيين العرب، وهم جزء لا يتجزأ من مدينة أورشليم".

ويعيش حوالى 358 ألف فلسطيني في القدس الشرقية، وهي الجزء من المدينة التي سيطرت عليها إسرائيل من الأردن، حيث يتمتعون بحقوق الإقامة ولكنهم ليس مواطنين إسرائيليين.

والمنطقة ذاتها هي موطن 225 ألف يهودي إسرائيلي، يعيش معظمهم في أحياء حديثة في القدس الغربية.
ونفى برهوم وجود عمليات تطهير عرقي أو اضطهاد للسكان العرب في القدس الشرقية، مستدلا بزيادة تعداد هؤلاء السكان العرب.

وزاد: "صحيح أني أتمنى الوجود اليهودي في القدس يزداد ولكن ليس على حساب السكان العرب المتعايشين في المدينة وفيهم طلاب يدرسون في الجامعة العبرية"، مشددا على أهمية أن يكون التواجد اليهودي في المدينة قانوني".

ماذا يقول القانون الدولي؟

يمكن أن يستمر الجدل القانوني على الأراضي الموجودة في الحي لسنوات، في ظل ارتفاع عدد القضايا التي ترفعها الجمعيات اليهودية بشكل كبير في السنوات الأخيرة.

ويرى رئيس منظمة "جوستيسيا" (JUSTICIA) الحقوقية وأستاذ القانون الدولي، الدكتور بول مرقص، أن "نزع ملكية الأراضي من الفلسطينيين في حي الشيخ جراح تشكل خرقا للقانون الدولي الإنساني".

وقال مرقص في حديث خاص بموقع "الحرة" إن قرارات المحاكم الإسرائيلية "لا يستند إلى مسوغ قانوني؛ لأن أهالي القدس جزء من الشعب الفلسطيني الذي يقطن أراضي عام 1967، وهي أراضي دولة فلسطين التي أقرها العالم واعترف بها".

وأوضح أن "القاعدة القانونية لدعاوى المستوطنون اليهود أمام المحاكم الإسرائيلية تقوم على ادعائهم بأن ملكية المنازل في الشيخ جراح تعود لهم وذلك لأن عائلات يهودية عاشت هناك وفرّت عام 1948 عند قيام دولة إسرائيل".

وأضاف مرقص أن عمليات نزع ملكية الأراضي من الفلسطينيين تخرق القانون الدولي لعدة أسباب أولها أنها "تتعارض مع قرار مجلس الأمن رقم (2334) الذي طالب إسرائيل بوقف الاستيطان في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية".

وتابع: "كما أنها (إخلاء منازل الفلسطينيين) تنتهك المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، حيث أكد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومحكمة العدل الدولية والأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة على أنها تنطبق على المستوطنات الإسرائيلية".

كما أن السبب الثالث يتمثل في "انتهاك اتفاقية جنيف الاولى لعام 1864 المتعلقة بحماية حقوق الإنسان الأساسية في حالة الحرب، وحماية المدنيين الموجودين في ساحة المعركة أو في منطقة محتلة".

ومع ذلك، يقول مرقص إن "قرار مجلس الأمن 242 لم يضمن معايير واضحة للتعامل مع المقدسيين".

ومن المتوقع أن تعقد المحكمة العليا في إسرائيل جلسة استماع ثانية، الاثنين، للبت في قرار استئناف العائلات الفلسطينية المتضررة، في الوقت الذي تشهد فيه القدس صدامات يومية بين الشرطة الإسرائيلية وفلسطينيين.