إيلاف من الرباط: شكل تخصيص جزء مهم من خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لتوليه مقاليد الحكم في البلاد، للعلاقات المغربية -الجزائرية، حدثا كبيرا ومتميزا، حيث استعرض الوضع الحالي لهذه العلاقات، وما يشوبها من خلافات وتوترات ينبغي تجاوزها.

ووجه عاهل المغرب رسائل عدة الى قادة الجزائر والشعب الجزائري أهمها أن الشر والمشاكل لن تأتي أبدا الجزائر من المغرب. ليخلص إلى القول "إن المغرب والجزائر هما أكثر من بلدين جارين، إنهما توأمان متكاملا".

من هذا المنطلق،جدد ملك المغرب الدعوة الصادقة لقادة الجزائر للعمل سويا، دون شروط مسبقة، من أجل بناء علاقات ثنائية، أساسها الثقةوالحوار وحسن الجوار.

ويرى المراقبون أن التعبير عن هذا الموقف الملكي الصريح،في خطاب عيد الجلوس ، بما يحمله من دلالات ورمزية المناسبة ، وما له من مكانة متميزة ضمن الخطب الملكية، هو إعلان رسمي أمام شعوب المنطقة، وأمام العالم، بالتزام ملك المغرب من أجل بناء علاقات أخوية متينة بين بلدين جارين وشعبين شقيقين.

وتوقف المراقبون ايضا عند ما يميز هذا الخطاب في مضمونه ووضوح لغته،معتبرين إياه أنه لا يحتمل أي تأويل، لأنه مباشر ونابع من القلب، ومن إيمان وقناعة الملك محمد السادس، بضرورة طي هذا الملف،وتسوية العلاقات بين البلدين، والتوجه نحو التكامل والاندماج، الذي يعود بالنفع على جميع شعوب المنطقة، بدل إهدار الوقت والطاقات، التي ترهن مستقبل المنطقة وشعوبها.

ومن ثم فان مبادرة اليد الممدودة للجزائر التي اطلقها الملك محمد السادس ليلة أمس تنبع من قناعة صادقة وراسخة لديه، بأن العلاقات بين بلدين جارين، مثل المغرب والجزائر، يجب أن تكون طبيعية، وفي مستوى رصيدهما التاريخي المشترك، وأن تستجيب لتطلعات الشعبين إلى توطيد ما يجمعهما من وحدة الدين واللغة والمصير المشترك.

لقد أعلن العاهل المغربي صراحة ان الوضع الحالي لهذه العلاقات لا يرضيه،وليس في مصلحة الشعبين، وغير مقبول من طرف العديد من الدول.

وبما أن الجغرافيا لا يمكن أن تتغير،فإن الحدود المفتوحة،يقول الملك محمد السادس ،تبقى هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، لأن إغلاقها يتنافى مع حق طبيعي ومبدأ قانوني أصيل، تكرسه المواثيق الدولية، بما في ذلك معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي.

إن الأمر هنا يتعلق بحق حرية تنقل الأشخاص وانتقال الخدمات والسلع ورؤوس الأموال بين الدول، وخاصة بلدان المغرب العربي، التي لها من المؤهلات ما يجعلها فضاء مندمجا، يسوده التعاون والتضامن والإخاء، والتي من المنطق أن توجه طاقاتها لرفع التحديات الأمنية والتنموية المشتركة.

تجدر الاشارة الى ان هذه ليست هي المرة الاولى التي يتطرق فيها ملك المغرب لهذا الموضوع. فقد ظل منذ توليه عرش البلاد، يدعو لإقامة علاقات سليمة وقوية مع بلدان الاتحاد المغاربي، وخاصة مع الجزائر. ودعا في عام 2008 صراحة ورسميا لفتح الحدود،وأكد على ذلك مرات عدة ، وفي مناسبات متعددة .

ولأن الملك محمد السادس ليس مسؤولا على قرار إغلاق الحدود ، الذي اتخذ عام 1994 عقب الهجوم المسلح على فندق "أطلس أسني" في مراكش ، كما هو شأن الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون، وحتى الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ركز عاهل المغرب على مسؤولية قيادة البلدين، سياسيا وأخلاقيا، على استمرار الإغلاق، أمام الله وأمام التاريخ وأمام المواطنين.

ورغم أن هذه النداءات لم تجد آذانا صاغية من لدن الجزائر، في السابق من السنوات ، لتجاوز الخلافات الظرفية وحل الخلافات الموضوعية،ورغم الاعتداءات والمناورات المتواصلة والمتكررة ضد مصالح المغرب، حرص الملك محمد السادس على مواصلة سياسة اليد الممدودة، التي بدأها منذ سنوات حكمه الاولى حينما قرر الغاء تأشيرة دخول المواطنين الجزائريين الى المغرب ، وديدنه في ذلك تسوية العلاقات بين البلدين وبدء مرحلة جديدة مغايرة .

إن سياسة اليد الممدودة هي عقيدة مغربية خالصة سار على ركبها ملوك المغرب منذ الاستقلال ،معتبرين إياها صنوا للسلام والاستقرار وحسن الجوار.

في سياق ذلك ،قدم الملك محمد السادس التزاما علنيا ورسميا، صادقا وواضحا لقادة الجزائر والشعب الجزائري، مشددا على القول "الشر والمشاكل لن تأتيكم من المغرب، كما لن يأتيكم منه أي خطر أو تهديد، لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا".

لقد وضع ملك المغرب النقط على حروف العلاقات المغربية-الجزائرية بشكل واضح وصريح لا يشوبه أي لبس ضدا على ما تروج له بعض وسائل الإعلام الجزائرية بأن فتح الحدود لن يجلب للجزائر إلا الشر والمشاكل.

وهذا خطاب يرى العاهل المغربي أن لا أحد يمكن أن يصدقه، خاصة في عصر التواصل والتكنولوجيات الحديثة.

ولم يتوقف الملك محمد السادس عند هذا الحد بل أعلنها صراحة أمام العالم وأمام الشعبين المغربي والجزائري ،وقال إن "أمن الجزائر واستقرارها وطمأنينة شعبها، من أمن المغرب واستقراره. والعكس صحيح، فما يمس المغرب سيؤثر أيضا على الجزائر، لأنهما كالجسد الواحد".

وبعد استعراضه للمشاكل الحقيقية التي تواجه البلدين، والمتمثلة في الهجرة والتهريب والمخدرات والاتجار في البشر، دعا عاهل المغرب قادة الجزائر للعمل سويا على محاربتها "لأنها هي عدونا الحقيقي والمشترك".

ولعل أهم ما يميز خطاب الملك محمد السادس بمناسبة عيد الجلوس هو أنه جاء مترفعا عن الخلافات والمزايدات العقيمة والتوترات الإعلامية والدبلوماسية، التي عرفتها وما زالت تعرفها العلاقات بين المغرب والجزائر، والتي تسيء لصورة البلدين،وتترك انطباعا سلبيا،لاسيما في المحافل الدولية.

ورغم ما يتعرض له المغرب ومؤسساته ورموزه من إساءة واعتداءات، في خرق سافر للأعراف الدبلوماسية وللأخلاقيات المهنية، عبر الملك محمد السادس عن أسفه للتوترات التي تعرفها العلاقات بين البلدين . ودعا في موقف نبيل إلى "تغليب منطق الحكمة والمصالح العليا، من أجل تجاوز هذا الوضع المؤسف، الذي يضيع طاقات بلدينا، ويتنافى مع روابط المحبة والإخاء بين شعبينا".

وتبعا لكل ما سبق ، ثمة قناعة لدى متتبعي الشأن المغربي- الجزائري ، بأن الارتباط العضوي بين البلدين لن يكتمل إلا إذا حسنت الإرادات،وجرى التخلي عن أطروحات الماضي،والتوجه نحو المستقبل، بكل صدق وحسن نية، لما فيه مصلحة شعوب المنطقة المغاربية وشركاؤها،والفضاء الأورو-متوسطي والإفريقي عموما.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: "هل تتجاوب الجزائر هذه المرة مع سياسة اليد الممدودة لملك المغرب، وتدخلها ضمن معادلة دبلوماسيتها، حتى تعيد المنطقة الى أجواء لقاء العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، الذي جرى في المعبر الحدودي (زوج بغال/ العقيد لطفي)، بوساطة من العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، وهي الأجواء التي أدت الى إنفراجة في العلاقات بين البلدين وفتح الحدود البرية بينهما".

لقد شكل لقاء معبر "العقيد لطفي" الخطوة الاولى في رحلة الألف ميل نحو انعقاد قمة مراكش في 17 فبراير 1989 التي شهدت إعلان ميلاد إتحاد المغرب العربي، وقبل ذلك إحتضنت الجزائر قمة زرالدة في يونيو 1988.

إن الكرة الان في الملعب الجزائري . فهل يتحقق اختراق لصالح علاقات تركز على المستقبل وتنسى تعقيدات الماضي؟ وهل يلتقي الملك محمد السادس مع قادة الجزائر الجدد لوضع خارطة طريق جديدة للعلاقات بين البلدين ؟

هي أسئلة من ضمن أسئلة كثيرة، المقبل من الايام هو وحده الكفيل بالجواب عليها.