خلال منافسات كأس الأمم الأفريقية الأخيرة التي جرت في الكاميرون، ظهر بشكل كبير مدى حب المواطنين هناك لكرة القدم، لكن في الوقت الذي يلاقي فيه المنتخب الكاميروني نظيره الجزائري في المرحلة النهائية لتصفيات كأس العالم القادمة في قطر، تشهد البلاد انقساما كرويا.
من الشائع أن يتردد قول أن الرياضة لا يجب أن تختلط بالسياسة، لكن في الواقع هذا يحدث احيانا، أما هنا في الكاميرون فالأمران لا يمكن فصلهما.
فالبلاد تشهد صراعا مستمرا منذ خمس سنوات، حرض الانفصاليين، متحدثي اللغة الإنجليزية، ضد الحكومة المركزية وظهر ذلك جليا على ملاعب كرة القدم.
وخلال كأس الأمم الأفريقية الماضي، عندما خسر المنتخب الكاميروني، الملقب "بالأسود التي لا تروض" أمام المنتخب المصري، في الدور قبل النهائي، أحس الكاميرونيون بصدمة، وحزن شديدين، لكن في المناطق الخاضعة للانفصاليين، جرت احتفالات، وكانت على أشدها في منطقة باميندا، مركز مناطق الانفصاليين.
ورغم أن معظم المحتفلين، بهزيمة الكاميرون فعلوا ذلك في منازلهم إلا أن صوت الاحتفالات كان يُسمع عبر مختلف شوارع المدينة، ثم امتدت الاحتفالات إلى الشوارع، وردد المحتفلون أغاني وهتافات، كما تضمنت الاحتفالات استعراضات باستخدام الدراجات النارية، في شوارع مدينة بامبلي.
وعكس ذلك مشاعر الكاميرونيين جنوبي البلاد، الذين أصبح المنتخب القومي يشكل لهم رمزا لاتحاد سياسي، يمقتونه.
وكان الطبيب نغاوا إيبوغو، من بين هؤلاء المحتفلين بهزيمة منتخب بلادهم، وهو طبيب جراح متخصص في المسالك البولية.
وبالنسبة إليه كمشجع يحب كرة القدم، يعرف تماما الدور الذي تلعبه الرياضة في الساحة السياسية في بلاده، وكذلك تأثيرها على حياة الناس.
ويقول إيبوغو "هذه البلاد اعتادت استخدام الأحداث الكروية في تجاوز المشاكل السياسية، ودفنها تحت التراب، لقد اعتادوا ضخ المزيد من الأموال في كرة القدم، لأنهم يعرفون أنها عامل يوحد الناس".
ويعد الغضب الذي تشهده مدينة باميندا، مماثلا لما حدث عام 1998، عندما قام بعض أبناء المدينة بإحراق محطة توليد الكهرباء، خلال مظاهرات غاضبة، قبيل مباراة المنتخب الكاميروني أمام النمسا، في نهائيات كأس العالم، حينها.
وكانت حينها الحركة الانفصالية في المنطقة لا تزال تحت الأرض، في مهدها، يرعاها مجموعة من الموظفين العموميين، الذين يتوقعون الإحالة المبكرة للتقاعد.
"الانتصار يجلب البؤس للناس"
لقد كان إيبوغو يشجع المنتخب الكاميروني، حتى العام 2016، عندما بدأت أزمة أبناء الجنوب تشتعل، وهو يعتقد الآن أن الانتصارات الرياضية الكاميرونية تصب في مصلحة السياسات الحكومية، القائمة على تحويل انتباه المواطنين بعيدا عن المشاكل.
ويقول إيبوغو "حتى لو كنت تقاتل، وفاز منتخب الأسود التي لا تروض، فانس كل ما تقاتل لأجله، لقد جعلوا ذلك أمرا معتادا، طوال السنوات الماضية، فكل نصر يحققه المنتخب يجلب المزيد من البؤس، والمعاناة للناس".
ويلعب المنتخب الكاميروني دورا مركزيا في رسم الصورة الرمزية للرئيس بول بيا البالغ من العمر 89 عاما، والذي يحكم البلاد لأربعين سنة حتى الآن.
وكما يصفه الإعلام كرجل الرياضة الأول في البلاد، تم بث مقطع مصور للرئيس بيا، خلال نهائيات كأس الأمم الأفريقية، وهو يصافح لاعبي المنتخب، وكان المقطع يعاد بثه على التلفزة الوطنية، كلما حقق المنتخب انتصارا في البطولة.
ويقول إيبوغو "أغلب المواطنين يعتقدون أنه عندما يحقق الأسود التي لا تروض انتصارا، فإن ذلك يحدث بسبب وجود رجل قوي، وبالتالي عندما ينتصر الفريق، يقوم المواطنون بإهداء الفوز، وتقديم الدعم لرئيس الجمهورية".
الناس في باميندا يشعرون بالحذر عندما يعبرون عن أرائهم، ويختارون من يتحثون إليه، لذلك يشكل الأمر لهم صراعا، عندما يحاولون كبت فرحتهم عندما يخسر المنتخب الكاميروني.
أما في الشوارع، حيث يمكن للتمرد أن يكون سببا للتعرض للقتل، فإن ابتسامة واحدة، أو وجها مشرقا، قد يكون مجرد إشارة صغيرة، للإفصاح عن قصة كبيرة.
وخلال فترات الاحتلال، تم تأسيس الدولة الكاميرونية، على أيدي الفرنسيين، والبريطانيين، وهو ما خلف انقساما لغويا وثقافيا في البلاد.
ولعقود بعد الاستقلال، شكى الناطقون باللغة الانجليزية من التهميش واحتكار الناطقين بالفرنسية، وهم الغالبية من السكان، السلطة في المجالات السياسية والاقتصادية.
وأصبح ذلك مؤخرا أمرا معلنا، وتحول إلى تمرد ودعوات للانفصال، من جانب المناطق التي يعيش فيها الناطقون باللغة الانجليزية جنوبي الكاميرون، وكان اول ضحية لهذه الحرب، هو المنتخب الكاميروني، لكرة القدم.
"إلا الكاميرون"
كبلد مستضيف لنهائيات كأس الأمم الأفريقية للنساء، عام 2016، كان من المتوقع أن يتقابل المنتخب الكاميروني، مع نظيره الغاني للحصول على اللقب.
وعندما بدأت البطولة، كانت معظم الحانات، في باميندا ممتلئة بمشجعي المنتخب، رغم الحملة القمعية التي شنتها الحكومة في ذلك الوقت على النشطاء الجنوبيين، وبحلول موعد المباراة النهائيةتغيرت هذه المشاعر، وتحولت إلى لا مبالاة وحنق وغضب ولم يستغرق الأمر إلا أسبوعين لتدمير عقود من تشجيع الجنوبيين لمنتخبهم الوطني.
أما بخصوص كأس الأمم الأفريقية، التي جرت مطلع العام في الكاميرون،فلم تحظ بحفاوة كبيرة من الجنوبيين، الذين أرادوا فوز أي فريق بالبطولة، إلا منتخب الكاميرون.
يقول إيبوغو "في باميندا، ليس هناك ما يساوي، حمى كأس الأمم الأفريقية، لقد عرضوا على الناس نقلهم إلى بافوسام للمشاركة في التشجيع، ولم يتحرك أحد" وقد عرضت السلطات بالفعل تذاكر ووسائل نقل مجانية، في محاولات من الحكومة والسياسيين لملء مقاعد الملاعب الخاوية.
لكن لم ينطبق ذلك على الجميع.
فبالنسبة لسميث مبوا، وهو موظف مختص في مجال الموارد البشرية، فإن شغفه بكرة القدم يفوق اهتمامماته السياسية، لقد سافر إلى العاصمة ياوندي، لتشجيع المنتخب الكاميروني في مواجهة منتخبي بوركينا فاسو وإثيوبيا.
يقول مبوا "لا ينبغي خلط كرة القدم بالسياسة، سوف نحل مشاكلنا بطريقة أو أخرى، لكنها لا يجب أن تحرم الناس من الأشياء التي تجعلهم سعداء".
وأضاف "لدينا ملفات أكثر أهمية، نحن بحاجة لمزيد من المستشفيات، ومدارس أفضل، وتوفير رواتب المدرسين، الذين يخوضون إضرابات حاليا بسبب عدم تلقي رواتبهم، لكن كرة القدم وفرت لنا السلام دوما".
ونفى مبوا، تلقيه أي تهديدات، منذ عودته من رحلة تشجيع المنتخب، لكنه يعترف بأنه يحتفظ بسرية الأمر ، وبحبه لمنتخب الأسود التي لا تروض، وهو الأمر الذي يعتبره خاضع للاختيار الشخصي لكل فرد، ويعبر عن شعوره بالتفاؤل، بخصوص حجم تشجيع المنتخب الكاميروني، بين مواطني الجنوب.
ويقول "أنا أجروء على القول بأن نحو 60 بالمائة من الناطقين بالانجليزية في الكاميرون، كانوا يشجعون المنتخب الوطني، خلال منافسات كأس الأمم الأفريقية الماضية، ورغم أن الناس يشعرون بالغضب، إلا أنني أظن أنه في قلوبهم، لازالوا يحبون وطننا".
لكن إيبوغو، يظن أنه حتى تعيين البطل الكروي الوطني صامويل إيتو، كرئيس للاتحاد الوطني لكرة القدم في البلاد، ليس كافيا لإقناع سكان باميندا بتشجيع المنتخب الوطني.
ويقول إيبوغو، ملمحا للحرب الجارية، "أعتقد أنها ستبقى مهمة مرهقة في إقناع الناس مرة اخرى بتشجيع الأسود التي لا تروض، كما كنا نشجعهم، عام 1990".
التاريخ الاستعماري في الكاميرون
- احتل الألمان الكاميرون عام 1884
- أجبرت القوات البريطانية والفرنسية القوات الألمانية على مغادرة البلاد، عام 1916.
- بعد 3 سنوات انقسمت الكاميرون، ليسيطر الفرنسيون على 80 بالمائة، والانجليز على 20 بالمائة من مساحة البلاد.
- أعلنت الكاميرون الفرنسية استقلالها، عام 1960.
- بعد استفتاء عام عام 1961، تم تقسيم المنطقة التي كانت تحت سيطرة بريطانيا إلى قسمين، واختار القسم الجنوبي منها الانضمام للكاميرون، بينما اختار أبناء القسم الشمالي الانضمام لنيجيريا، التي يتحدث سكانها اللغة الانجليزية مثلهم.
التعليقات