ما أن تبدأ التحضيرات للانتخابات في فرنسا حتى يعود ملف الإسلام والمسلمين إلى الواجهة. ويتزامن التركيز على الموضوع مع تصاعد في خطاب اليمين واليمين المتطرف ضد المسلمين، ويحمل معه تحديات لأكبر جالية مسلمة في أوروبا.
نورا، التي اختارت اسماً مستعاراً، ولدت في فرنسا لأب جزائري وأم إيرلندية. تصف حياتها كامرأة مسلمة محجبة في باريس بأنها صراع يومي، فهي تتعرض لمضايقات على نحو مستمر بسبب حجابها.
الشابة التي تستعد لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع ضربت لي مثالاً عما تواجهه في حياتها اليومية، فعندما كانت تسير في الشارع قبل يوم من لقائنا توقف شخص وقال لها "إسلامية" ثم بدء بإهانتها.
- فرنسا تغلق مسجدا بسبب خُطب "دافعت عن الجهاد"
- فرنسا: لمن سيصوت المهاجرون من العرب والمسلمين في الانتخابات الرئاسية؟
الوضع يزداد سوءاً في فترة الانتخابات لأن الحديث عن الإسلاموفوبيا فعال في وسائل الإعلام السائدة، على حد تعبير نورا.
وجود المسلمين في فرنسا متأصل منذ أجيال، صحيح أن دينهم واحد لكن ثقافاتهم متنوعة وتجاربهم مختلفة. الاندماج والقبول في المجتمع أسهل بالنسبة لمن لا يسهل التعرّف على ديانتهم من خلال ملابسهم.
التقيت بنجاح وهي سيدة فلسطينية مسلمة غير محجبة انتقلت مع زوجها إلى فرنسا منذ سنوات طويلة. تجربة نجاح مختلفة كلياً عن تجربة نورا، فهي تؤكد أنها لم تشعر يوماً بالتمييز ضدها بسبب دينها وعلاقاتها مع الفرنسيين جيدة جداً كما تصفها، لكنها تدرك أن الوضع مختلف بالنسبة لمحجبات وأعطتني أمثلة عن سيدات تعرفهن واجهن تحديات بسبب حجابهن.
تغطية على المشكلة الاقتصادية؟
تقدر أعداد المسلمين في فرنسا بستة ملايين شخص، البعض يقول إن العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير. قد يفسر هذا الحضور القوي في المجتمع هنا تركيز المرشحين على الإسلام والمسلمين في حملاتهم، لكنه ليس السبب الوحيد.
الأمين العام لاتحاد الجمعيات الإسلامية في منطقة سين سان دوني محمد حنيش يرى أن المجتمع الفرنسي ليس لديه مشكلة مع الحجاب أو المساجد، بل إن المشكلة الأولى في فرنسا هي ضعف القدرة الشرائية والتخوف من التضخم وارتفاع الأسعار: "رجال السياسية ليس لديهم حلول، فوجدوا الحل في استغلال الإسلام والمسلمين والتخويف بهم لتفادي الحديث عن المشكلة الحقيقية وهي المشكلة الاقتصادية".
الأسباب وراء التركيز على الإسلام والمسلمين في فترة الانتخابات مختلفة بحسب اليمين واليمين المتطرف. جان مسيحة عضو حملة مارين لوبان قال لنا إن سبب التركيز هو أن "الإسلام الموجود في فرنسا ليس إسلام روحاني فقط، بل إسلام سياسي، لأن حركة الإخوان المسلمين والسلفيين يحتكرون الإسلام الفرنسي والقيادة السياسية الفرنسية لا تفهم الفرق بين جمعيات الإسلام السياسي والإسلام بصفة عامة".
"نكتوي بنار الإرهاب ونار العنصرية"
لا يمكن وضع جميع المسلمين في فرنسا في خانة واحدة مع اختلاف اعراقهم وأصولهم وانتماءاتهم، ومع رفض بعضهم الاندماج في المجتمع.
نزار بدران طبيب فلسطيني هاجر إلى فرنسا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ويرى أن الإعلام يركز كثيراً على إظهار الجوانب السلبية للمسلمين ولا يفسح المجال لظهور التيارات المسلمة التي تندمج في المجتمعات الغربية: "إذا استطعنا إظهار وجود هذه التيارات فسيخلق ذلك نوعاً من التوازن".
استغل اليمين واليمين المتطرف في فرنسا وجود تيار إسلامي متطرف هنا لتصعيد الخطاب ضد المسلمين. فرنسا شهدت هجمات دامية نفذها متطرفون إسلاميون، دفع ثمنها المسلمون أنفسهم.
رئيس منتدى أئمة فرنسا حسن الشلغومي قال لنا إنه عندما تحصل أي "فاجعة" في فرنسا فإن المسلم الفرنسي يقول: "يا ويلنا سندفع الثمن". ويؤكد الشلغومي أن المسلمين يبذلون جهوداً لتأكيد أنهم أبرياء عند حصول أي هجمات: "نحن نكتوي بنارين، نار الإرهاب ونار العنصرية، ولا بد أن نبذل الجهد ثلاثة أضعاف حتى نبرر، ونخرج في مسيرات نقول نحن أبرياء وديننا متناف مع هؤلاء".
"الحكومة تضع يدها على المساجد"
في السنوات الأخيرة في عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لا يحسب على اليمين، أصبحت الحكومة أكثر حزماً في تعاملها مع المسلمين، وانقسم المجلس الإسلامي للديانة الفرنسية، وأُسس منتدى الإسلام في فرنسا في خطوة اختلفت آراء المسلمين حولها.
كذلك أغلقت الحكومة عشرات المساجد والجمعيات الإسلامية، منها مسجد بلال في مدينة بوفيه شمال العاصمة الذي أغلق في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي لمدة ستة أشهر. سبب الإغلاق بحسب الحكومة هو خطب تحرض على الكراهية، لكن نائب رئيس المسجد زهير عبد الفتاح ينفي هذه التهمة ويقول إن الخطب أخرجت عن سياقها.
عبد الفتاح أكد أن المسجد يدين بشكل دائم أي خطاب أو تصريحات متطرفة: "الحكومة الفرنسية تحاول إنشاء مؤسسة حيث يكون فيها الإمام مدربا في فرنسا. وأعتقد أنه في وقت لاحق هؤلاء الأئمة المدربون هنا في فرنسا سيقع توزيعهم على عدد من المساجد في مختلف أنحاء البلاد. وهذا ما سيجعل الحكومة تضع يدها على المساجد وعلى الخطاب الديني".
هل خسارة اليمين كافية لمسلمي فرنسا؟
على الرغم من المخاوف من تصاعد خطاب اليمين المتطرف وما يحمله ذلك من تبعات على حياة المسلمين هنا، تؤمن شريحة واسعة من مسلمي فرنسا أن الشعب الفرنسي بغالبيته لا يتأثر بحملات اليمين المتطرف.
ذلك ما يؤكده عميد مجلس باريس الكبير شمس الدين حفيظ: "نلاحظ أن هناك لعبة مخيفة اليوم بين الإعلام واليمين المتطرف الذي أصبح لا يطاق، لكن نحن نرى في الحياة اليومية أن الفرنسيين متسامحون ولا يحملون هذه الصفات باستثناء أقلية طبعا ملتزمة بخطاب اليمين المتطرف".
الحرب في أوكرانيا وتبعاتها على أوروبا طغت على كل المواضيع في فرنسا، وحولت التركيز الإعلامي والسياسي عن الإسلام والمسلمين قبيل الانتخابات الرئاسية.
هذا لا يعني أن الخطاب التصعيدي ذهب إلى غير رجعة لكنه خَفُت على أقل تقدير.
احتمال فوز اليمين المتطرف في الانتخابات المقبلة يقلق مسلمي فرنسا بالطبع، لكن خسارته وحدها لن تكون كافية لطمأنتهم.
فأزمة نورا وكثيرين غيرها بدأت قبل صعود حظوظ اليمين الانتخابية، ولن تنته قبل أن تتمكن من عيش حياة طبيعية من غير مضايقات بسبب حجابها: "أود أن تتمكن النساء المسلمات من العمل ومن عيش حياتهن اليومية مثل جميع المواطنين في هذا البلد وأن يشعرن بالترحيب بهن مثل أي مواطن آخر. هذا هو حلمي".
التعليقات