باريس: اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس المواجهة عبر تمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل من دون تصويت في الجمعية الوطنية، ما أثار استهجاناً داخل الجمعية في بداية اجتماعها الذي يفترض أن تصوّت فيه على المشروع، في ما ينبئ بإعطاء زخم جديد للحركة الاحتجاجية.

وأعلنت رئيسة الوزراء إليزابيت بورن تفعيل المادة التي تجعل مشروع القانون بأكمله من "مسؤولية" حكومتها، رافعة صوتها وسط صيحات الاستهجان التي أطلقها نواب المعارضة.

ودعا الاتحاد النقابي الذي يكافح إصلاح نظام التقاعد إلى "تجمّعات" خلال نهاية الأسبوع وإلى يوم تاسع من الإضرابات والتظاهرات الخميس المقبل.

وقال في بيان إنّ الاتحاد النقابي "ينظر بجدية إلى المسؤولية التي تتحمّلها السلطة التنفيذية في الأزمة الاجتماعية والسياسية الناجمة عن هذا القرار، وهو إنكار حقيقي للديموقراطية"، شاجباً فرض القانون بـ"القوة".

في هذه الأثناء، تدخّلت الشرطة في باريس لتفريق متظاهرين بالقرب من البرلمان في ساحة الكونكورد حيث تجمّع آلاف المحتجّين، حسبما ذكر مراسلو وكالة فرانس برس.

وقالت الشرطة إنّ قوات الأمن تدخّلت، خصوصاً بخراطيم المياه، بعد محاولة تدمير موقع أوبليسك في وسط الساحة. وتسبّب تدخلها بتحرّك كبير للحشود في الساحة.

ووصل مشروع القانون إلى مرحلته النهائية الخميس، إذ كان يفترض عرضه على تصويت النواب. ومن الواضح أن قرار ماكرون إقراره قبل التصويت يدلّ على عدم تمكّن فريقه من حشد أكثرية في الجمعية الوطنية.

وفي ظلّ حالة عدم اليقين، اجتمع مجلس الوزراء قبل بدء جلسة البرلمان الحاسمة. وأٌقرّ خلال هذا الاجتماع السماح للحكومة باللجوء إلى المادة 49.3 من الدستور، التي تسمح بتمرير مشروع قانون من دون طرحه على التصويت، من خلال تولّي الحكومة مسؤوليته.

حتّى تلك اللحظة، كان إيمانويل ماكرون قد أعلن أنّه لا يريد اللجوء إلى هذه المادّة وأنّه يفضّل أن يصوّت النواب على مشروع القانون. غير أنّ ائتلافه لا يملك غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية، الأمر الذي سيضطرّه إلى الاعتماد على أصوات نواب من حزب "الجمهوريين" اليميني التقليدي.

مخاطرة كبيرة
ولكن بعد مفاوضات لا حصر لها وحسابات محمومة واجتماعات متعدّدة، اعتبرت السلطة التنفيذية أنّ الذهاب إلى التصويت على مشروع القانون الذي يرفع سنّ التقاعد من 62 عاماً إلى 64 عاماً، يُشكّل مخاطرة كبيرة.

وشدّدت بورن من على المنصّة على أن إقرار مشروع تعديل نظام التقاعد بالتصويت "غير محسوم"، مستنكرة في الوقت نفسه "التجاوزات والهجمات... خروج البعض عن طوره وتقلّبات البعض الآخر" في مواجهة مشروع الإصلاح الذي نتج من "مساومة" على حدّ تعبيرها.

وأشار أحد المشاركين في مجلس الوزراء إلى أنّ إيمانويل ماكرون أكد أنّ المخاطر المالية والاقتصادية كانت "كبيرة جدّاً" في حال رُفض النص.

ويُعتبر اللجوء إلى المادة 49.3 نكسة في رأي العديد من المحلّلين السياسيين.

كما أنّ كلّ أطراف المعارضة انتقدت هذا القرار.

وقال زعيم الشيوعيين في البرلمان فابيان روسيل، إنّ "البرلمان سيتعرّض للسخرية والإهانة إلى أقصى حدّ".

من جهتها، قالت مارين لوبن رئيسة كتلة نواب حزب اليمين المتطرّف "التجمّع الوطني"، إنّ القرار "فشل ذريع لهذه الحكومة... ولإيمانويل ماكرون".

تصويت لحجب الثقة
تواجه الحكومة بقيادة إليزابيث بورن الآن مقترحات مختلفة لحجب الثقة ستطرحها أحزاب المعارضة المختلفة.

وفيما يتمتّع نواب الائتلاف الرئاسي بأغلبية نسبية، سيكون على نواب أقصى اليسار وأقصى اليمين أن يتوافقوا، كما سيحتاجون إلى تصويت حزب "الجمهوريين" أيضاً.

وفيما أعلن "التجمّع الوطني" أنّه سيصوّت "على جميع الاقتراحات (لحجب الثقة) بغض النظر عن الجهة التي تقدّمها"، حذّر زعيم "الجمهوريين" إيريك سيوتي من أنّ حزبه لن يصوّت على "أيّ منها"، الأمر الذي يبدو أنّه يزيل خطر حجب الثقة عن الحكومة.

ومع ذلك، لا يمكن استبعاد تغيير في هذا الموقف، إذ أوضح النائب عن حزب "الجمهوريين" أوريليان براديي على سبيل المثال أنّه "سيطرح" خلال نهاية الأسبوع "مسألة" التصويت على اقتراح تقدّمت به مجموعة برلمانية صغيرة من أحزاب الوسط.

كذلك، أعلنت مارين لوبن أنّها ستقدّم اقتراحاً لحجب الثقة نيابة عن حزبها، وهو ما أعلنه أيضاً جوليان بايو وهو نائب عن حزب الخضر الذي ينتمي إلى ائتلاف الأحزاب اليسارية، والذي أعلن أنّه سيقدّم اقتراحاً لحجب الثقة "عابراً للأحزاب".

وقال "قد تكون هذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها لمقترح لسحب الثقة أن يطيح الحكومة بالفعل"، متّهماً الحكومة بأنّها "مستعدّة لإشعال النار و(إراقة) الدماء في البلاد". بدوره، قال خبير الرأي العام أنطوان بريستييل من مؤسسة "جان جوري" لوكالة فرانس برس إنّ "المادة 49.3 في خيال الفرنسيين مرادفة للوحشية، إنّه الشعور بأنّ الحكومة لا تصغي".

وأضاف "في الشارع، هذا سيُعطي زخماً جديداً للتعبئة".

أكّد الأمين العام لـ"الكونفيدرالية الفرنسية الديموقراطية للعمل" لوران برجيه أنّه "من الواضح أنه ستكون هناك تحرّكات جديدة، لأنّ الاحتجاج قوي للغاية".

ومنذ 19 كانون الثاني/يناير، تظاهر آلاف الفرنسيين في ثماني مناسبات للتعبير عن رفضهم لهذا الإصلاح.

وغطّت القمامة أرصفة العاصمة الفرنسية التي تعدّ إحدى أبرز الوجهات السياحية في العالم، في الوقت الذي عمّت فيه رائحة كريهة المكان.

ويعتبر معارضو هذا الإصلاح أنّه "غير عادل". كما تُظهر مختلف استطلاعات الرأي أنّ غالبية الفرنسيين تعارضه، رغم أنّ عدد المتظاهرين في الشوارع والمضربين عن العمل انخفض مع مرور الوقت.

"غير قابل للحياة"
واختارت الحكومة الفرنسية رفع سنّ التقاعد القانوني استجابة للتدهور المالي الذي تشهده صناديق التقاعد ولشيخوخة السكان.

وفرنسا من الدول الأوروبية التي تعتمد أدنى سن للتقاعد من دون أن تكون أنظمة التقاعد قابلة للمقارنة مع غيرها من الدول بشكل كامل.

وفي السياق، قال وزير الضمان الاجتماعي الإسباني خوسيه لويس إسكريفا إنّ "فرنسا لديها نظام... غير قابل للحياة".

وأضاف "بسبب فشلها في معالجة المشكلة في الوقت المناسب وكما فعلنا نحن، عليها الآن أن تتبنّى مقاربة... تولّد مقاومة اجتماعية".