لطالما اعتلت اللغة العربية الفصحى عرش البيان، حاملةً تراث الأمة وحضارتها، وراعيةً لأغزر ينابيع المعرفة. بيد أن هذه القامة الشامخة تقف اليوم على ضفةٍ، بينما يقف الطالب على ضفةٍ أخرى، يفصل بينهما نهرٌ متدفّق من اللهجات المحكية التي تشكّل لغة الحياة اليومية، لغة الدار والشارع والتفاعل الأوّل. إنّ الإصرار على أن تكون الفصحى وحدها هي أداة التلقين والمعرفة في فصولنا الدراسية، وهي اللغة المكتوبة التي لا تُحكى في أي بقعةٍ من الأرض، يخلقُ حالةً من الاغتراب المُنهك، ويقيم دون قصد حواجز ضخمة أمام عمق الاستيعاب لدى الناشئة.
إنَّ التحدي الذي يواجه الطالب العربي اليوم هو أنه يُجبَر على التعامل مع اللغة الفصحى كـ"لغة ثانية" في سياقٍ تتسيّده اللهجة الأم، مما يجعله يخوض معركة مزدوجة: معركة استيعاب المفهوم العلمي أو الفكري المعقّد، ومعركة فكّ رموز التراكيب والمفردات التي لا تتردد على لسانه. فتُهدر طاقةٌ ذهنيةٌ كان الأجدر بها أن تُستثمر في تحليل الفكرة ونقدها وتعميقها، لتُستهلك بدلاً من ذلك في عملية ترجمة داخلية عسيرة من الفصحى إلى الدارجة. ونتيجةً لهذا الجهد المشتت، يتحوّل الفهم الحقيقي للمادة إلى مجرد حفظٍ سطحيّ لمفردات فخمة، دون أن يلامس القلب والعقل جوهر المعنى.
لذا، فإن احتضان اللهجة المحكية في سياق التعليم، لا سيما في المراحل التأسيسية وعند شرح المفاهيم المعقدة، ليس تهاوناً أو انحساراً عن قمة الفصحى، بل هو مدّ لجسرٍ حيويّ. إن اللغة الأم هي الأداة المألوفة التي شُكّلت بها خريطة الطالب المعرفية الأولى للعالم. وحينما يختار المُعلّم هذه الأداة ببراعة لتوضيح مصطلحٍ علمي شائك أو لشرح سياقٍ تاريخي غامض، فإنه يضمن وصول الفكرة بغير عوائق أو حواجز لغوية. بل إن هذا الانفتاح يشجّع الطالب على التعبير عن تساؤلاته وأفكاره بلغةٍ يشعر معها بالثقة، فيتحرر لسانه من قيود الخوف من الخطأ النحوي، وينطلق نحو الحوار والنقد والتفكير، وهي أهداف التعليم السامية.
إنَّ الفكرة ليست في أن تُقام الدارجة مقام الفصحى، بل أن تُصبح اللهجة بوابة العبور الذهبية إلى الفصحى. تبدأ رحلة التلقين بانسيابية الشرح المحكي الذي يُرسّخ المفهوم، ثم يُتوج هذا الفهم باستحضار المصطلح الفصيح وكتابته وقراءته، لتغدو الفصحى إضافة ثرية تزيد من رصيد الطالب المعرفي، وليست سدّاً منيعاً يُفرض عليه. فكيف لنا أن نطلب من أجيالنا أن تستوعب علوم العصر وتفهم تراث الأمس بلغة، لا يمكنها أن تجري بها حواراً عادياً في سوقها أو منزلها؟ إن هذا التحدي الفريد في لغتنا، الذي يفصل لغة الكتابة عن لغة الحياة، يتطلب منا مرونة في المقاربات. فدعونا نُعيد تشكيل العملية التعليمية لتكون رحلةَ اتصالٍ لا رحلةَ اغتراب، نجعل فيها اللهجة خادماً للفهم العميق، ثم نرفع الطالب إلى منزلة البيان السامي الذي تحمله الفصحى.

















التعليقات