"حينما سألني عن عائلته، لم أستطع الإجابة، أخذت نفساً عميقاً، وحاولت بدلاً من ذلك تجنب السؤال بطريقةٍ طفوليةٍ بتغيير الموضوع".

معين أبو رزق هو الشخص الوحيد الباقي على قيد الحياة من أقارب الطفل عمر، ابن أخيه البالغ من العمر أربع سنوات، والذي يرقد في حالةٍ حرجةٍ في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة.

اضطر الأطباء إلى بتر يد عمر اليسرى، وترك جرحٍ كبيرٍ مفتوحٍ في ساقه اليمنى، وجروح أصغر في صدره ووجهه، وخلعٍ في فكه عقب غارة جوية إسرائيلية، يقول معين إنها قتلت 35 فرداً من أفراد عائلته، منهم والدته وأبوه وجدته.

وقرّر معين ألا يخبر عمر بوفاتهم، لأن ذلك قد يتسبب في تدهور حالته الصحية قبل أن يُجلى طبياً من غزة عبر مصر، على أمل أن يكون جزءاً من مبادرة حكومة الإمارات والهلال الأحمر الإماراتي.

وقال معين لبي بي سي عربي في سلسلة من التسجيلات الصوتية مساء الأحد "يجب إخباره بالمعلومات بطريقةٍ ما، حتى لا يصاب بصدمةٍ أو يدخل في حالةٍ لا أستطيع السيطرة عليها".

"يعلم أنه لم ير أياً منهم، ومع ذلك فهو يشعر بالحاجة إلى السؤال: أين أمي؟ أين جدتي؟ أين ذهبوا؟"

ومع ذلك، فمن غير المضمون أن تنقل سيارة إسعاف عمر إلى الحدود المصرية بسبب القتال العنيف والقصف الشديد بالمنطقة الوسطى في غزة.

بعض النازحين في غزة
NURPHOTO
بعض النازحين يتجمعون عند مقرٍ لتوزيع مساعدات الأمم المتحدة في دير البلح يوم الأحد

طريق واحد للإجلاء

وقسمت القوات البرية الإسرائيلية غزة إلى قسمين، حيث طوقت مدينة غزة بالكامل في الشهرين الأولين من الحرب بينها وبين حركة حماس.

وتتوغل الدبابات والقوات الآن في عمق مدينة خان يونس جنوبيّ القطاع، كما أعلنت إسرائيل الطريق السريع الرئيسي من دير البلح "ساحة معركة"، الأمر الذي لم يدع للناس في المنطقة الوسطى سوى طريق إجلاء واحد يفترض أنه آمن على طول ساحل البحر المتوسط.

ولجأ العديد من الفلسطينيين، الذين يعيشون شماليّ غزة، إلى المنطقة الوسطى بعد أن أمرهم الجيش الإسرائيلي بإخلاء منازلهم والتوجه إلى جنوب نهر وادي غزة قبل شهرين.

وكان ذلك في بداية الحرب التي اندلعت بعد هجومٍ عبر الحدود شنّه مسلحون من حماس على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، قُتل فيه 1200 شخص واحتجز حوالي 240 آخرين كرهائن.

وقُتل منذ ذلك الحين أكثر من 18200 شخص في غزة، بحسب وزارة الصحة في القطاع. و يُعد عمر واحدًا من بين أكثر من 49000 شخص أُبلغ عن إصابتهم حتى الآن.

ويقول الجيش الإسرائيلي إنّ قواته تريد القضاء على من يصفهم بالإرهابيين، وتحديد مواقع الأسلحة وتدمير البنية التحتية لهم، وإنّه ضرب أكثر من 22 ألف هدف منذ بداية الحرب.

مبان مدمرة بسبب القصف
EPA
إسرائيل تقول إنها قصفت 22000 هدف للمسلحين في غزة منذ بدء الحرب

وقال معين لبي بي سي عربي إنّ عمر وعائلته كانوا يزورون منزل جدته في مخيم النصيرات، شماليّ دير البلح، عندما قصفته القوات الإسرائيلية دون أيّ إنذارٍ مسبق.

ويتذكر ما حدث قائلا: "لم نر صواريخ كهذه من قبل، سقط الصاروخ ودمّر المنطقة السكنية المحيطة به بالكامل".

وأضاف "لحسن الحظ، كان قي المنزل فتحةً وقع من خلالها عمر، لكنّ ذراعه اليسرى أصيبت إصابةً بليغة لدرجة أنه كان لا بد من بترها على الفور".

وقال "يوم السبت فقد عمر نحو ثلاث وحداتٍ من الدم، وانخفض تركيز الهيموغلوبين لديه من 9.5 إلى 7.4، لذلك كان لا بد من نقله إلى المستشفى لإجراء عمليةٍ جراحية له لنقل الدم".

وقال معين إنّ الوضع في المستشفى كان سيئاً للغاية لدرجة أنّ الأطباء لم يتمكنوا من العثور على سريرٍ لعمر، بالرغم من خطورة إصاباته، مما اضطره إلى الانتظار في الممر بينما كان الأطباء والممرضون يعالجونه بقدر ما يستطيعون.

"المعدات والأدوات الطبية محدودةٌ للغاية لدرجة أنّه يتعين علينا التعامل مع الوضع بطريقة عملية وليس بطريقة صحية" أضاف معين.

وقال "لا توجد مسكناتٌ للألم، لذا علينا أن نمزح ونحاول إضحاكه من أجل تهدئته".

واعترف معين بأنّ هذه الطريقة لم تنجح إلا في بعض الأوقات، لكنّه أضاف "ليس لدينا أيّ خيارٍ آخر".

وأعرب عن أمله في أن يُنقل عمر الخميس المقبل إلى معبر رفح الحدودي مع مصر، ثم يُنقل بعد ذلك إلى أحد المستشفيات لتلقي العلاج من قبل الأخصائيين.

معين يأمل أن ينقل عمر إلى مصر لتلقي العلاج
MOEIN ABU REZK
معين يأمل أن يُنقل عمر إلى مصر لتلقي العلاج

حكاية لينا وعائلتها

نجت لينا شاكورة وزوجها وأبناؤها الثلاثة الصغار حتى الآن من القصف الإسرائيلي، لكنها قالت إنّهم ما زالوا يعيشون "كابوساً".

وكانت العائلة قد فرّت من منزلها في منطقة الشيخ رضوان بمدينة غزة، وتعيش حالياً في منزلٍ يقع في منطقةٍ زراعية خارج دير البلح مع أقاربهم.

وقالت لينا لبي بي سي عربي مساء الأحد "أستيقظ كل يوم وأتذكر أننا في حالة حرب وأنّ الناس يتضورون جوعاً، إنه لأمرٌ مؤلمٌ أن تُهجّر من منزلك ولا تجد طعاماً".

وأضافت "أنا وعائلتي نجلس مع 40 فرداً في غرفةٍ واحدة، وجميع النوافذ تحطمت بسبب القصف، نحن نجلس في الخارج أساساً... والجو باردٌ جداً، ويشعر الناس بالإهانة".

وقالت لينا إنّ أبناءها أصيبوا في ظهورهم لأنهم اضطروا إلى حمل أوعية الماء، وما يزيد الطين بلة أن المياه ليست نظيفة لأن محطات المعالجة والمضخات لا تعمل بسبب نقص الوقود.

وقالت إنّ الأسرة اضطرت أيضاً إلى تناول طعامٍ ملوثٍ لأنّ المحال التجارية كانت فارغة ولم يتلقوا أيّ مساعدات.

وأضافت "أملنا الأكبر هو أن يكون لدينا دقيق حتى نتمكن من خبزه، وحتى يمكننا خبزه على خشبٍ نظيف".

وأوضحت "يتجول الناس لجمع ما يمكنهم العثور عليه من خشب، لكنّ الخبز يخرج ملوثاً لأنه مطبوخ على الخشب من مكان القصف".

وقالت الأمم المتحدة يوم الأحد إنّها لم تتمكن من توزيع المعونات خارج مدينة رفح الجنوبية على الحدود مع مصر، في الأيام الأخيرة بسبب شدة الأعمال العدائية والقيود المفروضة على الحركة.