بعد الإطاحة بنظام الأسد، وجدت هيئة تحرير الشام نفسها أمام اختبار غير مسبوق: من السيطرة على إدلب فقط، إلى مسؤولية حكم سوريا بأكملها.

تجربة هيئة تحرير الشام في حكم إدلب

مع صعود هيئة تحرير الشام وتحولها من فصيل مسلح إلى قوة حاكمة عبر ذراعها المدنية، حكومة الإنقاذ، شكّلت تجربتها في إدارة إدلب منذ عام 2017 نموذجاً مثيراً للجدل والاهتمام.

ورغم عدم الاعتراف الدولي وعزلتها الجغرافية بفعل الحصار الذي فرضه نظام الأسد، استطاعت حكومة الإنقاذ إنشاء مؤسسات وتقديم خدمات التعليم والصحة، إضافة إلى تشكيل بنية إدارية لتسيير شؤون السكان في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

إلا أن هذه التجربة كانت محفوفة بالتحديات والانتقادات.

فقد اتُهمت الهيئة بقمع حرية التعبير، والتضييق على حقوق النساء، وبتورطها في ممارسات فساد إداري ومالي. وقد أدت هذه السياسات، إلى جانب الأزمات المتفاقمة مثل التضخم الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، إلى انطلاق احتجاجات شعبية متكررة في إدلب، تعبيراً عن الاستياء من أسلوب الحكم والتدهور المعيشي.

فكيف تعاملت الهيئة مع هذه الأزمات؟ وهل يمكن لتجربتها في إدلب أن تقدم مؤشرا لما قد يعنيه حكمها لبقية البلاد؟

حقوق المرأة: بين التشدد والتطور

منذ سيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب عام 2017، كانت حقوق المرأة محور جدل واسع في المنطقة. المحامية حلا إبراهيم، 39 عاما، انتقلت إلى إدلب بعد فرارها من الحرب في حلب.

تروي لبي بي سي تجربتها الشخصية التي تعكس التغيرات التي طرأت على وضع المرأة في هذه البيئة المحافظة.

عندما وصلت حلا إلى إدلب، صدمت من الفروق الثقافية، حيث وجدت نفسها أمام مستوى أعلى من التشدد الاجتماعي مقارنة بما كانت معتادة عليه في حلب: "تعرضت لانتقادات ومضايقات بسبب ملابسي وطبيعة عملي، حتى أن البعض كان يرفض التعامل معي أو حتى رؤيتي أثناء قيادتي للسيارة"، لكن خلال السنوات الخمس الماضية، تقول حلا إنها بدأت تلاحظ تغيرات تدريجية ملموسة.

ليس هناك أي حظر رسمي على تنقل النساء في إدلب أو سفرهن بدون مرافقة محرم ذكر. لكن الوصول إلى المحاكم الشرعية التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، خصوصاً تلك المختصة بقضايا الأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق، مشروط بمرافقة رجل.

تُطبق هذه القيود أيضاً في المحاكم الجنائية، وبحسب تقرير نشرته الأمم المتحدة عام 2023، تشكل هذه الممارسات "التمييزية عائقًا كبيرًا أمام تحقيق العدالة".

تضيف حلا إنها سعت إلى تأسيس اتحاد نسائي في إدلب، لكن طلبها قوبل بالرفض. ومع ذلك، تعتقد أن هيئة تحرير الشام تدرك أن البقاء في السلطة قد يتطلب تقديم تنازلات في هذا المجال، مما يعني أن مشاركة المرأة في الحياة السياسية قد تصبح أكثر واقعية في المستقبل.

وتشير حلا إلى أن القوانين التي كانت تمنع النساء من الانضمام إلى بعض النقابات، مثل نقابة المحامين، بدأت تتغير. فعلى سبيل المثال، كان ارتداء الخمار شرطاً للانضمام، ولكن هذا الشرط أُلغي في الفترة الأخيرة، مما يفتح المجال أمام المزيد من النساء للمشاركة في المجال المهني والنقابي.

ولا توجد حالياً قاضيات في المحاكم الشرعية التابعة للهيئة، وتواجه المحاميات صعوبات مماثلة لما تواجهه النساء الأخريات عند حضور جلسات المحاكم، مما يحد من إمكانية تمثيلهن للموكلات في هذه القضايا.

ترى حلا أن التغيير الجوهري يبدأ من مشاركة النساء في المناصب السياسية والقيادية، حيث تصف هذا الأمر بأنه مفتاح إصلاح المجتمع.

"نحن نربي الأجيال، وقدمنا الكثير، وزرعنا بذور التغيير. حان الوقت لجني ثمار جهودنا"، تقول حلا، معبرة عن طموحها للوصول إلى منصب سياسي في المستقبل. ومع ذلك، تعترف أن الطريق لا يزال مليئًا بالتحديات.

حرية الرأي: احتجاجات وإصلاحات

إدلب، مارس/ آذار 2024
Getty Images
إدلب، مارس/ آذار 2024

في فبراير شباط 2024، شهدت إدلب احتجاجات واسعة النطاق هزّت هيئة تحرير الشام، وطالبت بإسقاط زعيمها "الجولاني" (أحمد الشرع)، واستمر هذا الحراك لأكثر من تسعة أشهر. خرج الآلاف للتظاهر ضد السياسات الضريبية والقمع الأمني، مطالبين بمزيد من الحريات والإصلاحات الاقتصادية.

عبد الرحمن طالب، أحد منظمي الاحتجاجات، يرى أن هذا الحراك شكّل ضغطا حقيقياً على الهيئة ودفعها لاتخاذ خطوات تصحيحية. من أبرز هذه الخطوات إنشاء "ديوان رد المظالم"، الذي قدمته الهيئة كآلية لمعالجة شكاوى المواطنين، بالإضافة إلى إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين. ورغم أن هذه التغيرات اعتبرها البعض مؤشرات إيجابية على مرونة الهيئة، فإن التساؤلات تظل قائمة حول مدى التزامها بتطبيق إصلاحات مستدامة بدل خطوات استجابة آنية لضغوط الشارع.

وعن قمع التظاهرات، يقول عبدالرحمن إن السلطة "استخدمت العنف بنفس أسلوب الدول الأوروبية في مواجهة أي تحركات مطلبية، بالغاز المسيل للدموع وضرب المتظاهرين بالعصي"، ولكن بحسب زعمه، لم يتم استخدام عنف قاتل أو رصاص مباشر على الإطلاق. لكن تقارير صحافية محلية أشارت آنذاك إلى أن السلطات تعاملت مع الاحتجاجات بطرق أشد عنفا، إذ حاول عناصر من هيئة تحرير الشام دهس محتجين بسيارات عسكرية مصفحة.

"حاجة لتعديل جوهري"

محمد البشير المكلف برئاسة الحكومة السورية الانتقالية
Getty Images
محمد البشير المكلف برئاسة الحكومة السورية الانتقالية، المسجد الأموي في دمشق

في الوقت نفسه، تستمر التحديات المتعلقة بالفساد والخدمات العامة في تشكيل عائق أمام التنمية المستدامة. رغم نجاح حكومة الإنقاذ في توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية تحت ظروف الحصار والعزلة الدولية، إلا أن هيمنة نخبة اقتصادية مقربة من الهيئة على مفاصل الاستثمار والتجارة أثارت استياءً واسعا بين السكان.

تعتمد المنطقة بشكل كبير على المساعدات الدولية. ومع تدهور قيمة الليرة السورية، تحولت الحكومة في عام 2021 إلى استخدام الليرة التركية كبديل. ونجحت حكومة الإنقاذ في تأمين جزء من تمويلها الذاتي عبر فرض ضرائب على المعابر، مثل معبر باب الهوى، وتعاملها مع منظمات المجتمع المدني. لكن وفقًا للخبير الاقتصادي حيان حبابة، فإن التحدي الأكبر في الحكم الجديد سيكون في "القضاء على الفساد الذي خلفه الأسد"، مع تأكيده على ضرورة "تعديل جوهري لنظام الهيئة للتمكن من إعادة إعمار سوريا، وتأمين استثمارات ضخمة وإعادة هيكلة المؤسسات تعزيزاً للشفافية ودعماً للقطاع الخاص."

يقول الباحث السوري حايد حايد في منشور له على منصة إكس (تويتر سابقا)، إن هيئة تحرير الشام تعتمد على "براغماتية عالية في توسيع سلطتها وإدارة التحديات التي تواجهها. وتراهن الهيئة على أن السكان، الذين يجدون أنفسهم مضطرين للاختيار بين حكمها ونظام الأسد، سيقبلون بها كـ"الشر الأقل"، حتى وإن كانوا غير راضين عن أدائها".

ويضيف حايد أن هذه البراغماتية مكّنت الهيئة من "تعزيز صورتها كبديل أفضل للنظام، مستفيدة من العداء العميق تجاه الأسد". ومع ذلك، يرى حايد أن هذا التوجه "قلل من دافع الهيئة لتنفيذ إصلاحات جذرية، إذ تعتمد على تسامح السكان معها في ظل غياب خيارات أخرى مقبولة".

شارك في إعداد هذا التقرير: محمد كفرنبل