كثير من السوريين وغير السوريين استقبلوا خبر سقوط نظام الأسد بابتهاج واحتفالات، لكن هناك من اختلطت لديهم المشاعر بين فرح وتوجس وخوف.

وتتركز هذه المخاوف على سيناريو سيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة بعدما كانت متهمة بأنها فرع من فروع تنظيم القاعدة في سوريا، كما أنها لا تزال مصنفة ضمن قائمة الإرهاب من طرف الولايات المتحدة ودول غريية أخرى.

بالنسبة للأكراد في سوريا، يتضاعف الخوف كما يخبرنا أحد النازحين في مدينة الطبقة بمحافظة الرقة ، ويدعى رشيد عمر،: "إذا كان السوريون - سواء كانوا من الموالين لنظام الأسد أو معارضيه - يخشون على مستقبلهم وحياتهم في سوريا مرة واحدة، فنصيبنا من الخوف والتهجير والقتل أكبر بثلاث مرات".

"المستقبل تسوده حالة من الشك، وخاصة أن الفصائل التي تهاجم مناطق سيطرة الأكراد في شمال البلاد، تنضوي تحت لواء "الجيش الوطني السوري" الذي يتكون من عدد من الفصائل المسلحة والأجانب بدعم تركيا وإشرافها ".

في الواقع، إنها الموجة الثالثة من رحلة نزوح الأكراد عن منازلهم منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، كما يقول رشيد عمر، الذي نزح هو ومعظم عائلته وأقاربه من حلب: "كانت المرة الأولى في أعوام 2013 و 2014 و 2015، عندما اشتبكت القوات الكردية مع فصائل جهادية مثل جبهة النصرة والجيش الحر آنذاك، فتوجه كثيرون من الأكراد إلى مدينة عفرين، ذات الغالبية الكردية في شمال غربي البلاد".

لكن، في عام 2018، أطلقت تركيا عملية عسكرية في عفرين أسمتها "غصن الزيتون"، أدت إلى نزوح كثير من سكانها مرة أخرى إلى منطقة الشهباء في ريف حلب الشمالي.

قوات سوريا الديمقراطية
Reuters
قوات سوريا الديمقراطية

وفي ديسمبر/كانون الأول الحالي، ومع إحكام هيئة تحرير الشام قبضتها على حلب، تحركت الفصائل المدعومة من تركيا الموجودة في عفرين، نحو منطقة الشهباء، في ريف حلب الشمالي، وسيطرت عليها، ما أدى إلى موجة نزوح ثالثة نحو محافظة الرقة، التي لا تزال تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.

وتقول سوسن بكر (ليس اسمها الحقيقي)، وهي إحدى النازحات الجدد في مدينة حلب، وكانت ناشطة سياسية، لبي بي سي عربي: "أرى أن عدو الأكراد الحقيقي هو الجيش التركي ورئيسه أردوغان الذي جل تركيزه في الحرب السورية هو حول كيفية التخلص من الأكراد وتهجيرهم من مناطقهم كما فعل أسلافه من الحكام الأتراك بأكراد تركيا سابقاً، فتركيا هي من تحرض السوريين ضد بعضهم البعض، وهي من تزرع الحقد في نفوسهم تجاه الأكراد، لدرجة أن الفصائل الموالية لتركيا صبت كل تركيزها على محاربة الأكراد بدلاً من نظام الأسد، الذي كان إسقاطه هو الهدف من الثورة".

ماذا يريد الأكراد السوريون؟

يؤكد الأكراد السوريون، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية على لسان قائدها مظلوم عبدي، على أن "مطالبهم تتوافق مع سوريا الموحدة ولا يسعون إلى الانفصال أبداً بل إلى تثبيت حقوقهم السياسية والثقافية في الدستور ضمن دولة واحدة"، كما أن مجلس سوريا الديمقراطي أكد مراراً من خلال بيانات وتصريحات أدلى بها مسؤولوه على أن الإدارة الذاتية المطبقة بالفعل "هي النموذج المتعدد الأعراق والأديان في المناطق التي يسيطرون عليها حالياً".

ويقول حسن محمد علي، الرئيس المشارك لمكتب العلاقات العامة في مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) لبي بي سي عربي:" نريد إدارة لا مركزية ضمن دولة سوريا، مثل الإدارة الذاتية المطبقة حالياً في شمال شرقي البلاد، وهي إحدى التطبيقات العملية لللامركزية".

وعن مدى استعدادهم للحوار مع قوى المعارضة السورية، يقول محمد علي: "كنا وما زلنا دائماً مستعدين للحوار مع جميع الأطراف من أجل رسم ملامح سوريا المستقبلية، داخل البلاد وخارجها بما يضمن الحقوق المتساوية لجميع مكونات سوريا".

لكن، في حديثي مع عدد من المواطنين الأكراد في مناطق الإدارة الذاتية، تبين لي أن كثيرين منهم يعيشون حالة عدم اليقين، من أن تتخذ إدارة ترامب القادمة خطوة مفاجئة وتسحب قواتها من شمال شرقي البلاد وتتركهم "فريسة" لهجمات تركيا.

ويقول محمد علي: "إن القوات الأمريكية موجودة في سوريا من أجل محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة، وبدون التوصل إلى حل سياسي، ستسود المنطقة حالة من الفوضى مرة أخرى وستكون الظروف مواتية لانتعاشه من جديد، والولايات المتحدة تدرك هذه الحقيقة وتراقب الوضع، كما أن عدداً من الدول الأوربية تتفق معها في الرأي والمخاوف، لذلك نعول على الحل السياسي الذي يضمن حقوق جميع السوريين وهو السبيل للخلاص من التنظيمات الإرهابية".

ويقول ديفيد إل فيليبس، مدير برنامج بناء السلام والحقوق في معهد دراسة حقوق الإنسان بجامعة كولومبيا، لبي بي سي عربي: "يجب على السوريين الآن أن يجتمعوا في مؤتمرات إقليمية ومناقشة مبادئ الحكم وحقوق الأقليات، ولتحقيق هذه الغاية، يجب على مجلس سوريا الديمقراطية عقد مؤتمر إقليمي في القامشلي لمناقشة المرحلة الانتقالية في سوريا".

مظاهرة للأكراد في الحسكة يحملون شعار الشعب السوري لا تقبل الاحتلال العثماني
Getty Images

ماذا تريد تركيا من سوريا ما بعد الأسد؟

لعل كثيرين يعلمون نية حكومة أردوغان فيما يتعلق بسوريا.

يقولها أردوغان صراحة إن جل مخاوفه في سوريا، تكمن في وجود قوات سوريا الديمقراطية على حدود تركيا الجنوبية، إذ تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعاً مسلحاً ضد الدولة التركية منذ ما يزيد عن أربعين عاماً.

يقول البروفسور هنري جي باركي، من معهد "مجلس العلاقات الخارجية" الأمريكي، والذي له مؤلفات عن القضية الكردية، لبي بي سي عربي:" إن تركيا بلا شك القوة الأكثر أهمية التي دعمت ولا تزال تدعم فصائل المعارضة مثل هيئة تحرير الشام التي حصلت على طائرات بدون طيار من تركيا، وقوبل سقوط حلب وغيرها من المحافظات بيد هيئة تحرير الشام بالترحيب من قبل أنقرة، وخاصة أن الأسد تجاهل دعوة أردوغان في الفترة الأخيرة للجلوس إلى طاولة المفاوضات. لذلك من المؤكد أن هذا التحول الآن من شأنه أن يزيد من نفوذ تركيا في سوريا".

ولكن، على الرغم من الدعم العسكري الذي يقدمه التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة للأكراد، إلا أن مشروع الإدارة الذاتية يفتقر إلى الدعم السياسي الواضح للأكراد في سوريا المستقبل.

يقول باركي: "المسألة كلها تكمن في تركيا. فهي دولة كبيرة ومهمة للغاية وعضو في حلف شمال الأطلسي، وتلعب دوراً مهماً في النظام الغربي، كما نجح أردوغان في ترهيب الدول الغربية. قد يقول المرء إن هذه السياسة الغربية قصيرة النظر. ولكن مع وجود كثير من القضايا الدولية، فإنهم لا يريدون إضافة قضية جديدة. ومع ذلك، لم ترضخ واشنطن للضغوط التركية حتى الآن، لأن ما يوفره الأكراد أمر حيوي أيضاً، وحتى ترامب، الذي أراد، بسبب أردوغان، سحب القوات الأمريكية من سوريا، اقتنع خلال ولايته الأولى بإبقاء القوات الأمريكية هناك".

ومنذ بداية الحرب، دعمت تركيا الفصائل المسلحة المعارضة في شمال البلاد، وأطلقت عدة عمليات عسكرية لإبعاد الأكراد عن مناطقهم الأصلية نحو الداخل السوري بذريعة محاربة الإرهاب وإنشاء منطقة عازلة، منها عملية "غصن الزيتون" في يناير/كانون الثاني 2018، في عفرين، و"نبع السلام" في أكتوبر/تشرين الأول، 2019 في مدينتي رأس العين وتل أبيض، إضافة إلى "درع الفرات" في جرابلس في عام 2016، التي هزم فيها تنظيم الدولة الإسلامية لصالح الفصائل الموالية لتركيا.

ونزح إثر المعارك بين القوات الكردية والفصائل المعارضة، مئات الآلاف من الأكراد من قراهم في عفرين إلى مدن أخرى أكثر أمناً في البلاد، وحلّ محلهم نازحين من مدن سورية أخرى مثل الغوطة وحمص ودير الزور وغيرها، ومعظمهم من أسر المقاتلين في صفوف الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا.

ويقول محمد علي: "إن تركيا تعلم أن أكثر المناطق تنظيماً وأماناً هي مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في شمال شرقي البلاد، لذلك لا تتوقف عن شن هجمات بين الحين والأخرى لزعزعة استقرار المنطقة وإخراج القوات الكردية منها".

نازحون أكراد من تل رفعت في ريف حلب الشمالي يتوجهون نحو مدينة الطبقة في محافظة الرقة.
NorthPress
نازحون أكراد من تل رفعت في ريف حلب الشمالي يتوجهون نحو مدينة الطبقة في محافظة الرقة.

هل تعارض أنقرة حصول الأكراد على أي حقوق؟

يقول باركي: "لقد رفع أردوغان من أهمية الأكراد السوريين في السياسة الداخلية لبلاده، ليس فقط لوضع مواطنيه الأكراد (في تركيا) في موقف دفاعي بل وأيضاً كوسيلة لتشتيت انتباه الناس. ومع ذلك، فإن الحقيقة وإن لم يتم التعبير عنها علنا، هو الخوف من أن يبرم الأكراد السوريون صفقة مع أي حكومة مركزية في دمشق لتحقيق وضع مستقل تماما كما فعل الأكراد العراقيون في أعقاب حرب العراق. إذ يعرف الأتراك أن الولايات المتحدة كانت الوكيل الأساسي في مساعدة الأكراد العراقيين على إنشاء حكومة إقليم كردستان. واليوم، عادت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى التحالف مع كيان كردي آخر، ما أدى إلى تعميق المخاوف في أنقرة من أن يعيد التاريخ نفسه. ونتيجة لهذا، أصبح التحالف الأمريكي في سوريا سبباً رئيسياً للخلاف بين أنقرة وواشنطن".

ويوضح باركي أنه "إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها، فستكون عواقبها وخيمة ومريعة، لأنه لا يزال هناك أكثر من أربعين ألف معتقل من مسلحي تنظيم الدولة ومؤيديه في السجون التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية، وإذا أُطلِق سراح هؤلاء، فمن المرجح أن ينضم بعضهم أو كثير منهم إلى هيئة تحرير الشام، وبالتالي تعزيزها أو التسبب في خلق حالة من الفوضى في شمال العراق أيضاً".

ويقول محمد علي: "لعبت قوات سوريا الديمقراطية دوراً بارزاً في هزيمة تنظيم الدولة الذي سيطر على مساحات كبيرة من سوريا، وإذا تشكل جيش سوري وطني في سوريا المستقبلية، فبالتأكيد ستكون قسد جزءاً منه لأنه ليس لدينا أي توجهات أخرى بل الدفاع عن أمن مناطقنا ضد هجمات الفصائل المدعومة من قوى إقليمية".

أيديولوجيتان مختلفتان

إن التقدم السريع الذي أحرزته هيئة تحرير الشام نحو دمشق، وخطابات قائدها أحمد الشرع عن سوريا الجديدة والتي تخلو من الإشارة إلى الأكراد، يثيران حالة من عدم اليقين بشأن موقفها تجاه قوات سوريا الديمقراطية.

وفي حين لم تحدث اشتباكات مباشرة بين الطرفين حتى الآن، إلا أن الأمور قد تتجه نحو الصدام إذا ضغطت تركيا، كما أن تناقض الأيديولوجيا والعقيدة التي يتبناها الطرفين، تثير مخاوف إضافية. حيث تسود اليسارية والاعتدال الديني بين الأكراد، بينما تتبنى الهيئة فكرا إسلاميا متشددا.

ويظل الوضع غير مستقر، ما يجعل المنطقة عرضة لتغيرات مفاجئة في الأيام المقبلة.