كان طبيعياً ان تصل الأمور داخل "فتح" الى ما وصلت اليه نظراً الى انه ليس طبيعياً بقاء عناصر تنتمي الى الحرس القديم في مواقع أمنية مهمة لمجرد ان هذه العناصر محسوبة على ياسر عرفات.
بغض النظر عما اذا كانت هذه العناصر فاسدة أو غير فاسدة، والأرجح انها فاسدة في معظمها، تكمن المشكلة في أن ليس في استطاعتها التعاطي مع الواقع الجديد القائم على الأرض. يتلخص هذا الواقع في أن اسرائيل ستنسحب من غزة عاجلاً أم آجلاً وستترك فراغاً. من سيشغل هذا الفراغ؟ انه السؤال الكبير؟ والجواب ان هناك خيارين: اما فوضى عارمة وإما تتحول غزة الى منطقة تحت سيطرة منظمات متطرفة على رأسها "حماس"، وهو أمر مرفوض اقليمياً مثلما انه مرفوض دولياً. وما يحصل في غزة حالياً يتلخص بأن هناك استعدادات لملء الفراغ الذي سيخلفه رحيل الاحتلال من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة الى تحول القطاع بؤرة لشن عمليات على اسرائيل. ومثل هذه البؤرة في ظل موازين القوى القائمة حالياً لا يمكن الا ان تجر الويلات على غزة وأهلها.
تكمن مشكلة ياسر عرفات رئيس السلطة الوطنية للشعب الفلسطيني ورئيسه المنتخب ورمز نضاله وصموده في وجه الاحتلال أنه يرفض الاعتراف بأن اخطاء كثيرة ارتكبت في السنوات الأخيرة من جهة، وان الأوضاع على الأرض تغيرت من جهة أخرى. صحيح أنه لا يوجد فلسطيني يريد التخلص من ياسر عرفات، باستثناء أولئك الذين يتحدثون بلسان ارييل شارون. لكن الصحيح أيضاً أنه لا يوجد فلسطيني لا يقول هذه الأيام أن "أبو عمار" يرتكب أخطاء وان عليه التصرف بطريقة مختلفة تأخذ في الاعتبار ان تخليه عن بعض مسؤولياته لآخرين قادرين على اعادة مد الجسور مع واشنطن ومع المحيط العربي وحتى مع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود ـ لارسن مصلحة فلسطينية. وللأسف الشديد تبين ان ما ورد في التقرير الأخير لرود ـ لارسن الى مجلس الأمن كان صحيحاً الى حد كبير في ضوء التطورات التي شهدتها غزة.
ثمة أمل كبير في وضع حد للتدهور الأمني في غزة، وهو تدهور جاء في وقت تسود حال من الفوضى مناطق عدة في الضفة الغربية. وعلى سبيل المثال وليس الحصر هناك تسيب كامل في نابلس حيث تسيطر عصابات مسلحة على بعض الشوارع والأحياء. وهناك احتقان طائفي في بيت ساحور أقل ما يمكن قوله فيه ان الجانب الفلسطيني في غنى عنه. وبعث الأمل في وقف التدهور أن إقالة قائد الشرطة اللواء غازي الجبالي كانت خطوة شجاعة أقدم عليها "أبو عمار" على الرغم من انها جاءت متأخرة.
وحبذا لو يقدم الآن على سلسلة من الخطوات تساعد في استتباب الأمن من دون خوف من أن يكون المسؤولون الأمنيون الجدد من خارج فريق رفاق الدرب الذين يعتبرون ان الفضل في شغلهم للمواقع التي هم فيها عائد الى شخص رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وحده...
في السنة 2004، وبعد ثلاث سنوات في الاقامة الجبرية، في رام الله وبعد كل الأخطاء التي ارتكبت بما في ذلك قرار عسكرة الانتفاضة وعدم تصديق أن الولايات المتحدة ستتخذ موقفاً يتسم بالشراسة منه، وفي ظل الفتور في العلاقة مع مصر المدعوة الى المشاركة في حفظ الأوضاع في غزة بطريقة غير مباشرة، يبدو ياسر عرفات مدعوا الى اتخاذ قرارات كبيرة يؤكد من خلالها انه فوق الصراعات والنزاعات الصغيرة وأنه لا يزال قادراً على لعب دور العباءة التي تجتمع تحتها كل "فتح" بكل اجيالها. وربما كان اهم قرار يستطيع الزعيم الفلسطيني اتخاذه هو التخلص من بعض الرموز على غرار ما فعل عندما قبل اقالة اللواء غازي الجبالي بعدما خطفه مسلحون وأطلقوا سراحه لقاء وعد بمحاكمته.
من الواضح استناداً الى الذين يعرفون الوضع في غزة بدقة أن لا خوف من حرب أهلية في هذه المرحلة وان قراراً باستبعاد بعض الرموز سيكون كافيا لعودة الأمور الى طبيعتها. والأكيد ان اقدام "أبو عمار" على مثل هذه الخطوة لن يعتبر تراجعاً ولن يؤثر على هيبته بمقدار ما سيكون دليلا على أنه يواكب التطورات على الأرض عن كثب ويدرك ان ثمة حاجة الى تغيير عميق يصب في مواجهة مرحلة ما بعد الانسحاب الاسرائيلي والاستعداد لها.
سيكسب عرفات كثيراً اذا أقدم على خطوة شجاعة تظهر انه ليس من الزعماء الذين يغطون على الفساد بمجرد ان المرتكب من أفراد عائلته. وعلى العكس من ذلك، سيظهر "ابو عمار" انه الزعيم الحقيقي للشعب الفلسطيني وان همه الأول لا يزال محصوراً في مواجهة الاحتلال وان هذا الهم يعني في هذه المرحلة، بين أمور أخرى، اعداد غزة لمرحلة ما بعد زوال الاحتلال وتحويلها نموذجاً لما يمكن ان تكون عليه الدولة الفلسطينية مستقبلاً.
إن شارون يحلم ليلاً ونهاراً بتدهور الأوضاع في غزة ليقول انه على حق في بناء "الجدار الأمني" وان الفصل العنصري المبني على احتلال اجزاء من الضفة الغربية هو الصيغة الأفضل لاسرائيل ما دام الفلسطينيون غير قادرين على ايجاد صيغة للتعايش في ما بينهم، فكيف يمكن ان يتعايشوا مع الآخرين؟
من اجل احباط حلم شارون، مطلوب من "ابو عمار" اتخاذ خطوة تؤكد انه يمتلك من الثقة بالنفس وبشعبه ما يجعله يعمل على استتباب الأوضاع في غزة بما يتلاءم مع طموحات أهلها بعيداً كل البعد عن المصالح الشخصية لهذا الشخص أو ذاك، وبعيداً كل البعد عما يقوله بعض الذين حاولوا تنظيم تظاهرات في غزة دعماً لأحدهم، فلم ينزل الى الشارع أكثر من ثلاثمئة شخص على الرغم من كل الأموال التي دفعت من أجل ذلك!