جميل محسن: عرف العراق في فترة مبكرة نهضة في مجال الغناء والموسيقى، وظهر عدد كبير من الرواد والمبدعين في هذا المجال، والاسماء هنا لاتعد ولا تحصى حيث يعتبر العراق واحدا من البلدان العربية الاكثر ارتباطا بفن الطرب والمواويل، واذا كان الجمهور العربي عرف الفنان محمد القبانجي كرائد في مجال التلحين والغناء والذي يعود له الفضل في المقام الامي.
او الفنان ناظم الغزالي الذي مثل في حياته احدى اهم محطات الفن العراقي خاصة بعد جولته الخليجية والعربية، وزار خلالها بعض الدول الاوروبية، كما كان لعدد كبير من الفنانين العراقيين الاثر الكبير في انتشار الاغنية، كان ذلك من خلال الاسطوانات او الحفلات الحية التي كان يحضرها عدد كبير من ذواقة الغناء والطرب، الا ان الساحة العراقية شهدت ايضا عددا من الاصوات النسائية التي قدمت فنا راقيا، وارست باعمالها تاريخا للاغنية العراقية.
وفي هذه الذاكرة نستعيد بعضا من هذه الاصوات التي رحلت منذ وقت، وهي في نفس الوقت ليست غائبة عن ذاكرة العراقيين الذي عاشوا فترة ازدهار هذه الاصوات، وفي البداية لابد اولا من نبش الذاكرة مع احد اهم الاصوات الغنائية النسائية في العراق.

* سليمة مراد
في الاول من يناير من عام 1974 وفي أحد مستشفيات بغداد، لفظت الفنانة العراقية سليمة مراد أنفاسها بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها، وهي تكتم في قلبها حسرة بسبب وفاة زوجها الفنان المرحوم ناظم الغزالي، الذي لم تشاهده حيا عندما عاد الى بغداد عقب جولته الفنية الناجحة الى الكويت ومن ثم الى بيروت، وبعد عودته بساعات توفي الغزالي.

وعندما جاءت لزيارته تفاجأت بالخبر المؤلم، لقد كان رحيل ناظم الغزالي بداية لانتكاس سليمة مراد، فما كان يجمع بينهم اكثر من العلاقة الزوجية فهما تؤامان فنيان و كانت تشكل بالنسبة له الصديقة والمعلمة والزوجة، وسليمة ملمة بأسرار ألوان الغناء العراقي الذي كان يجهل بعضه المرحوم الغزالي وقيل الكثير في هذا المجال، منه ان الغزالي تعلم منها اصول الغناء والكثير من اسراره، وقصة زواجها منه كان قد مهد لها عام 1952 في إحد البيوت البغدادية، عندما شاركا سوية في أحياء حفلة غنائية فخفق قلباهما.

وبعد سنة من ذلك إللقاء تم زواجهما سنة 1953 ومما نشرته المرحومة سليمة مراد على قصة زواجهما قولها "طوال مدة الزواج كنا نتعاون معا بوصفنا فنانين على حفظ بعض المقامات والبستات، وغالبا ما كنا نبقى حتى ساعة متأخرة من الليل نؤدي هذه الأغاني معا ونحفظها سوية" وعن وفاته جاء على لسانها "وفي يوم وفاته كنت قد عدت من بيروت في حوالي الثانية عشرة وعشر دقائق ظهرا، توجهت نحو البيت فشاهدت جموعا محتشدة من الناس في الباب.
وعندما اقتربت منهم كي استعلمهم لم يخبروني فيما كانت عيونهم تنبئ بوقوع كارثة، اصبت بصدمة ولم أفق من غيبوبتي إلا بعد أن اكتظ البيت بالزحام". وسليمة مراد كغيرها من فنانات بغداد نشأت في بيئة بغدادية، تعرفت على الجوق الموسيقى وعلى الجالغي البغدادي.
وعلى مشاهير المطربين والعازفين آنذاك، يصف المرحوم عبد الكريم العلاف سليمة مراد بقوله "اشتهرت بلقب سليمة باشا وظلت محافظة عليه لا تعرف إلا به إلى أن أصدرت الحكومة العراقية قانونا بإلغاء الرتب العثمانية، فصارت تدعى سليمة مراد وسليمة مغنية قديرة أخذت من الفن حظا وافرا وصيتا بعيدا فكانت فيه البلبلة الصداحة المؤنسة".

* صديقة الملاية
من الاصوات النسوية البارزة في غنائها العراقي المرحومة صديقة الملاية، التي استطاعت ان تجد لها مكانا بارزا ومرموقا بين الاصوات التي عاصرتها، على الرغم من انها خريجة الوسط الشعبي، الذي كانت طقوسه تنحصر في الافراح والتعازي، حيث كانت تقام العزاءات والندب في البيوت، فكان صوت "فرجة بنت عباس" وهو اسمها الحقيقي ينطلق من بيت الى بيت يشدو ليفرح ويبكي في ان واحد، وقد قدر لهذه الفتاة ان تصبح نجمة في الغناء.
وان يتوفر لها الوقت خاصة في دار الاذاعة العراقية لتقدم اغانيها الشعبية المحببة سنة 1936 ويقال ان صديقة الملاية ولدت عام 1909 في بغداد، وفي عام 1918 بزغ نجمها ويذكر ايضا ان الكثير من عشاق الغناء وكبار الشخصيات هام بها في عصرها، وسجلت على الاسطوانات مجموعة كبيرة من الاغاني منها "الافندي" "الجار خويه الجار" و"فراكم بجاني" ،و "عبودي جاي من النجف" و"على جسر المسيب سيبوني".

وفي اواخر ايامها فقدت بصرها ولجأت الى الاذاعة لطلب المعونة التي قدمتها لها.ومن ضمن الذين عايشوا الفنانة صديقة، عبد الرحمن فوزي الذي جمع بعض المعلومات وشاهدها في الايام الاخيرة من عمرها وكان منظرا ظل يتذكره سنوات طويلة، ومما ذكر في هذا الشأن "كنت قاصدا الحسابات التي كانت بنايتها مستقلة عن مبنى الاذاعة، وقبل ان اصل الى الدائرة استوقفني منظر امرأة عجوز تبعث عن الشفقة والرثاء.
وعندما توقفت قليلا لاستجلي الامر واذا بي اصطدم بهول المفاجأة فالمرأة العجوز كانت الفنانة صديقة الملاية" ويقال ان صديقة الملاية عندما كانت تقصد الاذاعة لتسجيل اغانيها كانت تلبس عشرين حلية ذهبية، حتى انها تعرضت مرة الى سلب حليها، كانت ترفل بالمال والعز واذا بالزمن يفعل فعله معها.
يقول عن صوتها الناقد الموسيقى عادل الهاشمي "هي فرجة بنت عباس" ثم اطلقت عليها مجالس التعزية النسائية اسم "صديقة" واضيف لها لقب الملاية، كناية عن الصداح والجهارة المؤثرة القوية التعبير التي كان يتمتع بها صوتها داخل هذه المجالس، امتازت بصوت رنان عميق قوي يعتبر كنزا من الكنوز فيما لو تعهدته بالرعاية والعناية والتربية الفنية المحكمة الصحيحة، لكن هذا الصوت النادر انحدر انحدارا مخيفا وحاصرته، انشغالات طاحنة.
واجهت حياتها لتجبرها،اخيرا الى الخلود للراحة والاستقرار، حيث انعمت عليها دار الاذاعة العراقية بمنحة شهرية لسد حاجاتها، اجادت على نحو عجيب غناء بعض المقامات العراقية السهلة والمت بمعرفة خبيرة بجمع الاغاني العراقية القديمة، صديقة ذاكرة الاسماع وبقيت لاغانيها تلك الحلاوة الخاصة التي تميزت بها.
اشتهرت الملاية بعدة اغان منها "الافندي" "ياكهوتك عزاوي بيها المدلل زعلان" وغيرها من الاغاني.

* زكية جورج
من الفنانات العراقيات اللواتي ملأن الدنيا طربا وغناء في زمنهم، زكية جورج التي سمعت اغانيها البغدادية الشجية، مثل اغنية "وين رايح وين" و "تاذيني يولفي ليش تاذيني" و "يا هل خلك من شاف ولفي وعرفه" و "على الراح على الراح" وغيرها من الاغاني، و اسمها الحقيقي فاطمة، ولدت في مدينة حلب قدمت الى بغداد مع اختها "عليه"للعمل في بغداد سنة 1920.
وعملت زكية جورج واختها في بداية الامر كراقصتين، الا ان صوت زكية وعذوبة ادائها جعلها تتجه الى الغناء، ساعدها في ذلك اتجاه الشعراء والملحنين اليه والاهتمام بموهبتها، ومن هؤلاء اكرم احمد وكمال نصرت الذي خلدها في ديوانه الشعري الذي طبع بعد موته، بعد ان قيل بأنه هام بها، ويذكر انه في قصيدة "سلطان الحب" كتب عنها، انا اهواك سمية، والهوى شربليه، هو حلو هو مر، وبه تحلو الاذيه.
وقد عملت زكية في بغداد عام 1926 وفي عام1950 غادرت العراق الى مسقط راسها في حلب وقد وصفها العلاف بقوله "انها تملك رقة وجاذبية وصوتها يدخل في اعماق القلوب فيبعث فيها شجى وغراما"،وعلى الرغم من ان زكية قد غادرت العراق فقد كانت ولا تزال تعتبر من مطربات العراق الاوائل. ومن الشهادات التي قيلت عنها ماذكره صادق الازدي حين قال "كثيرون هم الاحياء الذين عرفوا الفنانة زكية جورج عن قرب وهي تصدح باغانيها البغدادية القديمة.
واكثر منهم الذين عرفوها عن طريق اغانيها التي جرى تسجيلها على اسطوانات، ثم استمتعوا ب "بستاتها" وهي تغرد من اذاعة بغداد بعد تأسيسها عام 1936 وزكية جورج من مواليد حلب، وقد جاءت الى بغداد للعمل في مقاهي الطرب عام 1920، وقد احبها الكثيرون، فكتب الشعراء والادباء الكثير، ولكن من الذين احبوها بجنون الشاعر كمال نصرت من الشخصيات البغدادية المعروفة.
و عندما قررت زكية العودة الى مسقط رأسها غادرت بغداد الى حلب سنة 1950 حيث صارت تعمل في حياكة الملابس الى ان فارقت الدنيا في عام 1966 و من اشهر اغانيها "وين رايح وين" "تاذيني يولفي ليش تاذيني" "على الراح على الراح" "انه من اكولن آه".

* زهور حسين
في مرحلة هامة من مراحل الغناء والطرب في بغداد، ظهرت زهور حسين من خلال الحفلات العائلية ومناسبات النساء، حيث كان صوتها يصدح بالتهاليل والمدائح النبوية التي كانت تقام في مسقط رأسها، نزحت الى بغداد مع عائلتها فاستقر بها المقام في مدينة الكاظمية، ومن هنا بدات تطلعاتها تنمو وتنشد الى صور الحياة البغدادية، وظهور الاصوات الجميلة على المسرح الغنائي، وفي الحفلات التي تقام في البيوتات الشهيرة .
وما ان وصل صوتها وقدراتها الى اسماع المغنين حتى وجدت نفسها تغني اول مرة في ملهى الفارابي سنة1938 اذ شد الاسماع والاذواق الى مقام الدشت الذي كانت تؤديه خير اداء بشعر الحبوبي:
ان انت لم تعشق ولم تدري مالهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

اصبحت زهور حسين مطربة الحفلات الخاصة والعامة، فكتب لها ابرز شعراء الاغنية انذاك امثال عبد الكريم العلاف وسبتي طاهر وجبوري البخار، كما لحن لها عباس جميل رضا علي وسعيد العجلاوي وخضير الياس.
وفي عام 1942 دخلت دار الاذاعة فغنت مقام الدشت فعمت شهرتها لما لها من قدرة على الخلق والصياغة اللحنية.
من الرواة الذين يتذكرون تاريخ وحياة هذه الفنانة عباس جميل الذي قال عنها "تعرفت على زهور حسين عام 1942 في دار الاذاعة حيث قدمت مقام الدشت واغنية عراقية قديمة، ومنذ ذلك التاريخ بدا الملحنون بالبحث عن الحان يقدمونها لصوتها القوي الذي يتمتع بابعاد غنائية كبيرة فقد استطاعت ان تشق طريقها بنجاح كمطربة على الصعيد الشعبي.
وعلى المستوى الغنائي في الوطن العربي، وفي عام 1948 كان لي لقاء آخر معها حيث لحنت لها اغنية "اخاف احجي وعلى الناس يكلون" تأليف محمد العزاوي، وهذه الاغنية حولت الخط الغنائي الذي كانت تسير عليه وهو تحول من الميزان الثقيل الى الميزان السريع، لذلك وجدت لها شخصية متميزة لم ينافسها فيه سوى لميعة توفيق ووحيدة خليل، لان الفنانتين كانتا تقدمان اللون الغنائي الريفي وهو الاقرب الى لون زهور حسين.
وقد تمكنت من ان اخلق نوعا من المنافسة بين المطربات، وذلك عن طريق توزيع الحاني على اكثر من صوت، ويقال ان صوت زهور حسين تتخلله بحة محببة مما كانت تضيف الى اذن المستمع الحنان والتعاطف، ومن اغانيها "غريبة من بعد عينج يايمة" "يم اعيون حراكة" "جيت لهل الهوى" "هله وكل الهلة" .وبعد هذا العطاء الصادق من اصالة الغناء، سافرت هي واختها وشقيق زوجها، وعلى طريق الحلة انقلبت السيارة بهما فتوفيت اختها ونقلت هي الى المستشفى، وبقيت غائبة عن الوعي قرابة العشرة ايام ثم فارقت الحياة بعدها سنة 1964.

* منيرة الهوزوز
عرفت منيرة الهوزوز برقة صوتها وعذوبته وقد عاصرت المطربة سليمة مراد، وان كانت سليمة سابقة لها في الغناء وقد حملت الاثنتان الغناء والطرب في زمن لم يكن لهن من منافس وقد ملاتا العراق غناءُ شعبيا اطرب النفوس، وتعتبر منيرة اول من غنت الاغنية الشعبية "الهوزوز" حتى شاعت هذه الاغنية فصارت على كل لسان، وبدا الناس يدعونها بـ منيرة الهوزوز بدلا من منيرة عبد الرحمن،وقيل ان الشاعر معروف الرصافي قد خصها بقصيدة قال فيها:
هل سمعتم منيرة قد افاضت
ببديع الغناء في كل فن
خلق الله صوتها العذب كيما
يعرف الناس كيف حسن التغني

اما ماذكره صادق الازدي عنها فهو ماجاء في احدى كتاباته "في العشرينات وكنت احد طلاب الدراسة الابتدائية في مدرسة التفيض الاهلية، عرفت المطربة منيرة الهوزوز عن طريق اغانيها المسجلة على اسطوانات، وقد شاع استعمال "الفونغراف" في البيوت والمقاهي وكانت احدى الشركات الاجنبية قد جاءت الى بغداد وقامت بتسجيل الاغاني والبستات الشعبية والمقامات العراقية، فصار الحاكي زينة البيوت وله المنزلة الاولى في المقاهي، وكانت منيرة واحدة من مطربات الملاهي البغدادية، مع جمهرة من المطربات امثال جليلة ام سامي وبدرية انور وسليمة مراد وخزنة ابراهيم وغيرهن" .
و يقول الازدي ايضا "من ذلك اللقاء وكنت اسهر في احد ملاهي بغداد فجاء صاحبه واحتل كرسيا على مائدتي فتذكرت منيرة الهوزوز فسألته ما معنى "الهوزوز" فابتسم وقال "مالذي ذكرك بها" فرويت له حكاية لقائي بها وقلت : انت من قدامى اصحاب الملاهي، وما اشك في انك عرفتها منذ بداية سطوع نجمها كمطربة فما هي حكايتها فلم يجبني فورا.
وانما سكت قليلا قبل ان يقول: ياسيدي امن الضروري ان ننبش القبور، ولكن بدات حياتها في الملاهي، ولما غنت الاغنية الشعبية يعني الهوزوز "يا من كالو يساهي العين تزوج، اه تزوج" فصارت تعرف باسم منيرة الهوزوز، والهوزوز هو الحب كله.

*البيان الإماراتية