عرفان نظام الدين

كم يتألم المرء عندما تتوالى عليه المشاهد المريرة وتخنقه العبرات وهو يرى الممارسات العربية العبثية تنخر في عظامه وتسفك دمه ودموعه وتسرق البسمة من شفاه أطفاله وتحرق الحاضر والمستقبل. وكم يتضاعف الألم وتتعمق جذوره أكثر عندما يكون ظلم ذوي القربى أشد مضاضة ويتطوع مثيرو الفتن ومدمنو تدمير الذات في الليلة الظلماء عندما تتعاظم الأخطار ويصبح الأعداء داخل بيوتنا يسرحون ويمرحون ويهددون ويدمرون بينما يتلهى أهل الدار بالخلافات والصراعات والاقتتال على مال منهوب وحق سليب.

نعم هذا هو واقعنا العربي اليوم بشكل عام، وواقعنا الفلسطيني بشكل خاص، حيث لم يعد خافياً على أحد أن العدو الإسرائيلي بكل قوته وجبروته وأسلحته المتطورة المدمرة وقنابله النووية ومخططاته التآمرية والعدوانية لم يهزمنا، ولم يتمكن على امتداد أكثر من 56 عاماً من هزيمة الشعب الفلسطيني الباسل... بل وبصراحة مطلقة: لقد هزمنا أنفسنا وظلمنا قضيتنا بأيدينا، وها هو الشعب الفلسطيني يضرب من بيت أبيه ومن قيادته ورموزه وفصائله من دون استثناء لتقطف إسرائيل الثمار ويشفى غليل السفاح شارون وعصابته الليكودية الحاقدة، ويا ويل الشعب الفلسطيني من شماتة الأعداء ومكرهم ومؤامراتهم لو استمرت الحال على ما هي عليه اليوم من تشرذم وخلافات وفوضى وصراعات توصل الكيان الفلسطيني الموعود إلى حافة الانهيار.
ومهما حاول المرء أن يجد التبريرات لما جرى ويجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه سيصل إلى حائط مسدود يضرب به رأسه... ومهما حاول أن يفسر هذه الأحوال، أو يتخذ جانباً، فإنه لن يجابه إلا بالإحباط وخيبة الأمل والنقمة على كل الأطراف بنسب مختلفة لأن ما يجري لا يصب إلا في رصيد واحد وهو رصيد إسرائيل، ولا يخدم إلا هدفاً واحداً وهو الهدف الصهيوني العدواني التوسعي.

والأنكى من كل ذلك، أن الصراعات الحالية لم تنفجر إلا في أشد الفترات حراجة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وأكثرها خطورة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي ككل. وهذا ما يثير أسئلة ملحة حول توقيت الانفجار المؤدي إلى انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية ومعها آمال الشعب الفلسطيني على رغم أن أسبابه قديمة وعميقة، وأن تفاصيله معروفة منذ أمد بعيد ولا أسرار فيها ولا مفاجآت.
عن هذا التوقيت يمكن رصد العوامل التالية:

إن الانفجار وقع بعد أيام قليلة من الانتصار المعنوي والقانوني للفلسطينيين في محكمة العدل الدولية التي أصدرت حكمها الاستشاري بأن الجدار العنصري الفاصل غير قانوني وغير شرعي وتوفر اجماع دولي (باستثناء الولايات المتحدة) مؤيد لهذا الحكم وتبعه انتصار آخر بقرار حاسم بغالبية 150 صوتاً للجمعية العامة للأمم المتحدة. فإذا بيد التفجير تسلب الشعب الفلسطيني فرحة الانتصارين من قلبه وتحرمه من البناء عليهما لتصعيد نضاله ضد الصهاينة مخططات وجداراً وظلماً.

إن الانفجار تزامن مع الموقف الاستفزازي المنحاز الذي اتخذه مبعوث الأمم المتحدة تيري رود لارسن (ودعمه فيه الأمين العام كوفي أنان)، بالتحامل على السلطة الفلسطينية إلى حد نعيها ونزع رداء الشرعية عنها، من دون أن ندخل في تفاصيل اخطائها وخطاياها التي لا يمكن لأحد أن يدافع عنها. وكان يمكن أن يتقبل أي انسان عادل هذا التقرير لو كان متوازناً ووجه انتقاداً مماثلاً إلى السلطة الإسرائيلية الآيلة للسقوط وسجل إدانة علنية لممارساتها الوحشية وجرائمها ضد الإنسانية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني.

إن هذا الانفجار وقع في توقيت سيئ أيضاً، لأنه تزامن مع تهافت شارون وزمرته لتسريع تنفيذ خطة أو مؤامرة الانسحاب من غزة مقابل تهويد الضفة الغربية وتكريس خطط الاحتلال وإكمال بناء جدار العار.

أخيراً وليس آخراً، فإن هذا الانفجار يقع في وقت تترنح فيه الحكومة الإسرائيلية ويحين موعد قطاف رأس شارون، فإذا به يقدم له هدية على طبق من ذهب ويعطيه مقويات وأوراق قوة يستخدمها لتكرار مزاعمه بأن حربه على الشعب الفلسطيني قد بدأت تعطي ثمارها وان ساعة الانتصار عليه قد حانت، وأن ما كان يسعى إليه هو وعصابته لإثارة الفتنة وبذر بذور حرب أهلية فلسطينية قد تحول إلى حقيقة، أو أنه أصبح قاب قوسين وأدنى منها.
أمام هذه المعطيات والعوامل في التوقيت والنتائج والانعكاسات والمعاني نقف أمام مشهدين متناقضين أحلاهما مر بالنسبة لكل عربي لأنه يرش الملح على الجراح، ويدعو للأسف والأسى:

- مشهد إسرائيلي يظهر فيه شارون وعتاة الصهاينة وهم أشد إصراراً على تنفيذ خطة جهنم ونسف مسيرة السلام ومنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وتكريس الاحتلال وضرب آمال الشعب الفلسطيني... وتبرز خلافات في الشكل وليس في الجوهر ويشتد التنافس بين الأحزاب والكتل وتتعاظم المعارضة لشارون واسلوبه وسياسته الداخلية، فيبدو الأمر وكأن حرب داحس والغبراء ستقع بينها... وفجأة تتبدل الصورة عندما يدرك الفرقاء داخل الحكم وفي المعارضة أن المرحلة تتطلب الترفع عن الخلافات، وأن أهداف إسرائيل قد حان قطافها فيتحول الكره إلى حب والشجار إلى غزل وتجري مفاوضات لتشكيل حكومة وحدة وطنية من ليكود والعمل وأحزاب أخرى لتجاوز المرحلة وحصد الأرباح والمكاسب التي تصب كلها لمصلحة إسرائيل. لا فرق بين صقور وما يسمى بالحمائم وبين المتطرفين والمعتدلين (إن وجدوا!).

- ومشهد فلسطيني مناقض يتسم بالعبثية واللاوعي لخطورة المرحلة ولا إدراك لحجم المخاطر ولا شعور بأدنى درجات المسؤولية: دمار وحصار للقيادة والشعب، واغتيالات وقتل وتشريد وسجن الآلاف، وضرب للبنى التحتية للدولة الفلسطينية المنتظرة ولثروات الشعب الفلسطيني، وابتلاع للأراضي المحتلة وتهويد للقدس وته.يد للمسجد الأقصى المبارك، وإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية ومخططات لسلب الفلسطينيين ما تبقى من هويتهم الوطنية وحقوقهم وآمالهم وتطلعاتهم للحرية والاستقلال والسيادة والعيش بكرامة وأمن وأمان.

وبدلاً من توحيد الجهود والطاقات وقطع دابر آفة الفساد والرشاوى والسرقات المكشوفة، والتفهم والتفاهم واختيار الأفضل والأكثر نظافة وشفافية ووطنية وتوحيد البندقية وقرار التصعيد والتهدئة والاتفاق على الحد الأدنى من استراتيجية مواجهة العدو المشترك وتوفير الأمن والامان ولقمة العيش الشريفة وفرص العمل للمواطن المنكوب! عمت الخلافات وانفجرت العصبيات وتغلبت نزعة الانتهازية والأنانية والجشع والطمع. وسادت أجواء القطيعة والتنابذ وتبادل الاتهامات والشتائم بين أركان السلطة وأبعد أكثر الشرفاء وأصحاب الخبرة والكفاءة والوطنية والقدرة على التعامل مع العدو الماكر، وتم تقريب أكثر الذين تثار من حولهم علامات استفهام وتعجب والانتهازيين وأصحاب النكايات. وبدلا من تغليب المصلحة العامة لا سيما في هذه الظروف الحرجة غلبت المصالح الخاصة حسب العصبيات والحزازات والحساسيات والمطامع بمنصب أو بسلطة أو بكرسي مهتز ومجد زائل.

وهكذا ضاعت الطاسة واختلط «الحابل بالنابل» وتحولت السلطة الى سلطات والمؤسسات العامة الى دكاكين ولم يعد قرار الانتفاضة والمقاومة بيد قيادة واحدة برأس واحد بل بيد قيادات في كل منها رؤوس عدة بلا حسن اختيار ولا حساب للتوقيت والظروف ومتطلبات المواجهة ولا لآلام الشعب الفلسطيني وأوجاعه وتعرضه للانتقام الوحشي بتبريرات واهية وبأوراق يستغلها لضمان سكوت الرأي العام العالمي. فالمقاومة واجب وشرف وضرورة لا مجال للتلاعب بها أو ضربها ولكنها في الوقت نفسه قد تتحول الى سلاح بيد العدو إذا لم يحسن المقاومون اختيار الهدف وحسابات التوقيت واستخدام الاستراتيجية الذكية والفاعلة والمدروسة التي كانت تستخدمها المقاومة في جنوب لبنان.

وكأنه لم يكف الشعب الفلسطيني ما عانى منه لأكثر من 56 عاماً لنزيد حجم مآسيه واحباطاته وخيبات أمله، وكأنه أيضاً لم يكفه ما تكبده من خسائر طوال السنوات الماضية من حصار وقهر وقتل وتدمير ونهب لثرواته فضاع الأمن والأمان وضاقت سبل العيش وتقلصت فرص العمل. ومع هذا بقي صابراً صامداً يثير حقد العدو وشارونه يحصد اعجاب العالم ودهشته. فالتضحية واجبة ومقدسة طالما ان الخطر قادم من جهة الأعداء ولكن ما جرى أخيراً من تفجير للخلافات وتبادل للاتهامات وإثارة للفتن وهدر للدماء واقتتال بين اخوة الدم والسلاح يدخل في عالم اللامعقول ويثير ألف سؤال وسؤال. ولكن السؤال الكبير والأول هو: لماذا انفجرت الأزمة في هذه الأيام بالذات؟

لم يعد خافياً على أحد ان أسباب الانفجار الظاهرة قديمة قدم المقاومة الفلسطينية من عمان الى بيروت فتونس ثم أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية بل ان معظم رموز السلطة هم من بقايا من كانوا يحكمون لبنان قبل الاجتياح الاسرائيلي عام 1982. والشكاوى من الفساد والمحسوبية وإبعاد أصحاب الخبرة والكفاءة واتخاذ القرارات الخاطئة كانت معروفة للقاصي والداني، وصرخات المطالبة بالاصلاح تعالت منذ اليوم الأول لقيام السلطة ولكن ما هو السر في انفجار الأزمة في هذا الوقت بالذات؟ هناك تفسيرات كثيرة تبدأ بخطة إطاحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتجريده من شرف الرمز وهيبة السلطة وخزينة الأموال، وتصل الى الظروف الدولية واصرار الولايات المتحدة واسرائيل على عدم التعامل معه بأي شكل من الأشكال مروراً بخطة شارون الغزاوية وتنافس الطامعين بالخلافة والاستئثار بتركة الرجل المريض الصامد في «المقاطعة» المقاطعة والمحاصرة.

ولا ننكر أن الرئيس عرفات أخطأ في قرارات كثيرة من بينها التفرد في أوسلو مما أدى الى عزل الطرف الفلسطيني عن محيطه واخوانه ومصادر قوته ومناورته، ولكنه لم يكن وحيداً ومن كان من القادة الفلسطينيين بلا خطيئة فليرمه بألف حجر فالكل ارتكب أخطاء رغم ان خطيئة القائد أكبر وأشد تأثيراً، وخطيئة الموعودين بالخلافة والمتلاعبين بأرواح الشعب أكبر وأكبر لأن من وعدهم لا يحفظ عهداً ولا يبقي على ود.

وكان يمكن لعرفات ان يتنحى عن الرئاسة ويحتفظ بالرمز المقدس وهالته التاريخية ويؤمن ولادة قيادة وطنية نظيفة قادرة تتمتع بقاعدة واسعة من التأييد تشبهاً بالزعيم نيلسون مانديلا، لكنه لم يفعل. وكان يمكن أيضاً ان يخفف من مسؤولياته ويرتاح قليلاً ليمنح رئيس الوزراء صلاحيات واسعة يجتاز بها «القطوع» ويحرج اللجنة الرباعية واسرائيل والولايات المتحدة بالذات لكنه لم يفعل. وكان يمكن على الأقل ان يدعو جميع القيادات والأحزاب والشخصيات الى المشاركة في حكومة اتحاد وطني تواجه العالم كله بموقف موحد، لكنه لم يفعل وضاعت فرص كثيرة. وعلى رغم الدعوات الكثيرة لعرفات بالاستقالة الآن، فإن الأوان قد فات والحل لم يعد ينفع في ظل الفوضى العارمة الناجمة عن تسارع الأحداث والمخاوف من فراغ كبير تستغله جهات عدة لإشعال فتنة حرب أهلية طاحنة تأكل ما تبقى من أخضر ويابس وأمل عند الشعب الفلسطيني... وعندنا كعرب. وكأن المشهد يستعيد مقولة «الحكيم» جورج حبش: «أبو عمار ماذا أقول لك غير ويلي منك... وويلي عليك» خاصة وأن حلم شارون هو القضاء على عرفات قبل أن ينهي مهماته وأن كابوسه الذي يلازمه هو أن يرحل قبله.
ثم ماذا بعد... هل بقي من أمل في لملمة الجراح واستعادة الوحدة الفلسطينية داخل السلطة وخارجها وداخل فتح وكتائب الأقصى وخارجها؟ الأمل كبير بأن يسارع العقلاء والحكماء الى التحرك لوقف النزيف والتوصل الى هدنة بين جميع الأطراف يتم بعدها تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على انقاذ ما يمكن انقاذه في الداخل وتضميد الجراح ووضع استراتيجية التعامل مع العدو والعالم بحيث لا يعلو صوت على صوت المعركة على أن تكون بقرار قيادي وليس تنفيذاً لقرارات عشوائية وآنية لا تأخذ بالحسبان ظروف المرحلة وانعكاسات أية عملية على القضية الفلسطينية بمجملها.

وللاخوة الفلسطينيين قدوة حسنة ومثال يحتذى في المقاومة اللبنانية التي نجحت في دحر العدو بتوحيد البندقية والقرار والاستراتيجية والتوقيت المدروس بعد أن ضمنت التفاف جميع اللبنانيين قيادة وشعباً على اختلاف مشاربهم وطوائفهم واتجاهاتهم وأمنت ظهرها بدعم كامل من سورية ومباركة عربية وترحيب دولي مدعوم بقرار من الشرعية الدولية.

وكم كان المشهد رائعاً والعمل ناجحاً والمقاومة منتصرة عندما كانت هناك قيادة موحدة للانتفاضة المباركة على امتداد مراحلها قبل أن تتحول عن مسارها لتفقد ما حصدته من دعم عربي كامل وتعاطف من جميع دول العالم وبينها الولايات المتحدة قبل أن تتبدل معطيات كثيرة في المنطقة والعالم منذ تفجيرات نيويورك وواشنطن.

والشعب الفلسطيني غني بالكفاءات والقدرات والامكانات لو فتح لها المجال للمشاركة في النضال بشتى أشكاله وأساليبه وطرقه... ولا بد من قيام تحرك جدي وسريع لبدء حوار وطني شامل يضع برنامج عمل المرحلة الراهنة واستراتيجية التعامل مع الأحداث ووضع حد للهدر والفساد واستنزاف الطاقات والثروات واللعب في الوقت الضائع بأساليب بالية... وأي تأخير في الحسم وايجاد الحلول الناجعة لن يؤدي الا الى الانهيار... وبكل أسف فإن الجميع يقفون الآن على حافته ومعظمهم لا يعرف، أو لا يريد أن يعترف بما جنت يداه على الشعب والقضية والأمة!

٭ كاتب عربي.