السيد يسين: المتتبعون لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية عبر حكوماتها المختلفة جمهورية كانت أو ليبرالية‏,‏ يعرفون أنها لاتنطلق من قيم مبدئية ولا من قناعات أيديولوجية محددة‏,‏ ذلك انها تطبق البراجماتية فلسفة وممارسة‏!‏ بمعني انها تركز علي مصالحها كما تدركها النخبة السياسية الحاكمة في إدارة ما‏,‏ وبغض النظر عن تناقض هذه السياسات مع الأخلاق أو معايير الحكم النزيه‏,‏ أو حتي مع القيم الديمقراطية وحقوق الانسان‏,‏ التي تدعي الولايات المتحدة الأمريكية أنها هي الحاجة الأساسية لها والضامنة لسلامة تطبيقها علي نطاق العالم كله‏.‏
والدليل علي مانقول أنها ـ من خلال المخابرات المركزية ـ دبرت انقلابا ضد الليندي رئيس جمهورية شيللي الذي انتخب ديمقراطيا‏,‏ لأنه كان معاديا للسياسة الاستعمارية وللهيمنة الأمريكية‏.‏ ولم يكن هذا هو الانقلاب الوحيد الذي دبر ضد حكومات ديمقراطية‏.‏ ومن ناحية أخري دعمت الولايات المتحدة الأمريكية نظما استبدادية تقوم بقهر شعوبها‏,‏ لأن هذا التدعيم كان يحمي مصالحها‏.‏ ويكفي ان ندلل علي ذلك بمثال ايران في عهد شاه ايران‏,‏ الذي رسخ الحكم الاستبدادي بعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية بانقلاب ضد الزعيم الوطني الايراني مصدق‏,‏ الذي أمم البترول وسعي لتحرير بلاده من أسر الهيمنة الأمريكية‏.‏

وفي العقود الأخيرة تبدو الانتهازية السياسية الأمريكية واضحة في دعمها لأسامة بن لادن وجماعات المتشددين الاسلاميين في فترة الحرب ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان‏,‏ حيث دعمت ومولت وسلحت الجهاد الاسلامي لأنه كان يناضل ضد الشيوعية‏.‏
وسرعان ماانقلبت علي أسامة بن لادن حين سقط الاتحاد السوفيتي وانسحبت القوات السوفيتية من أفغانستان‏,‏ وتركته هو وأنصاره من المجاهدين لمصيره‏.‏
ومن ناحية أخري شجعت الولايات المتحدة الأمريكية صدام حسين في حربه ضد ايران‏,‏ لمواجهة خطر تصدير الثورة الاسلامية‏,‏ وأمدته بالسلاح والمشورة العسكرية‏,‏ وبالمعلومات الاستخباراتية‏,‏ الي أن انتهت الحرب‏,‏ ومرة ثانية أوحت لصدام حسين عن طرق السفيرة الأمريكية الشهيرة في العراق انها لن تمانع لو قرر صدام غزو الكويت‏.‏
ووقع الرئيس العراقي السابق في الكمين‏,‏ واندفع بجهالة وحماقة سياسية نادرة الي غزو الكويت‏,‏ معتديا بذلك علي الشرعية الدولية والشرعية القومية العربية علي السواء‏,‏ وأدي الغزو الي دعوة القوات المسلحة الأمريكية مع قوات التحالف لتحرير الكويت‏,‏ وكان ذلك في الواقع بداية للحضور العسكري الكثيف في منطقة الخليج العربي من خلال قواعد عسكرية ضخمة وقوات مسلحة متعددة‏.‏
والواقع اننا أردنا باستحضار الوقائع التاريخية السابقة ابراز انتهازية السياسة الأمريكية‏,‏ وعدم انطلاقها من مرجعيات ثابتة لاتحيد عنها‏.‏ وتطبيقا لذلك حدث تحول لافت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واعلان الامبراطورية الأمريكية البازغة حربها ضد الارهاب‏,‏ والتي كان شعارها الشهير هو من ليس معنا فهو ضدنا
غير ان هذه الحرب المعلنة والتي لاسابقة لها‏,‏ لأنه ليس لها مسرح محدد ولكن هي بامتداد المعمورة‏,‏ وليس لها مدي زمني معروف‏,‏ لأنها بحسب التصريحات الأمريكية حرب الي الأبد‏,‏ اتضحت لها سمات فريدة‏.‏ لأن هذه الحرب عبر الأعوام الأخيرة‏,‏ أخذت تتبني تحليلا ثقافيا متميزا حاول تشخيص الأسباب العميقة الكامنة وراء الارهاب‏.‏
وهذا التحليل الثقافي توصل من خلال جهود علماء اجتماعيين وخبراء استراتيجيين امريكيين عديدون الي معادلة بالغة البساطة تقول الارهاب هو الناتج الأساسي للتفكير الاسلامي المتطرف الذي شاع في بلاد عربية واسلامية متعددة في العقود الأخيرة وتبنته جماعات اسلامية مسلحة‏,‏ أصبحت تمارس الارهاب تحت شعاراته التكفيرية‏,‏ وسواء في ذلك تكفير الحكومات العربية أو في البلاد الاسلامية بدعوي انها لاتطبق شرع الله‏,‏ أو تكفير الأجانب من الغربيين والأمريكيين خصوصا الذين يدنسون البلاد الاسلامية‏,‏ وخصوصا أراضي السعودية‏.‏
وحاول التحليل الثقافي الاستراتيجي الأمريكي البحث عن أسباب شيوع هذا الفكر المتطرف‏,‏ ووجدها في انسداد آفاق الممارسة الديمقراطية من حيث حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم أمام مئات الألوف من الشباب المسلم‏,‏ بحكم سيادة النظم الاستبدادية في البلاد العربية والاسلامية‏,‏ ولذلك لم يجدوا منفذا أمامهم سوي الانخراط في الجماعات المتطرفة التي سرعان ماتحولت الي جماعات متطرفة‏,‏ انتقلت ـ بحكم اشتراكها في الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي الشيوعي في أفغانستان ـ من المستويات المحلية الي الآفاق العالمية‏,‏ بحيث أصبحت تمارس الارهاب علي مستوي العالم‏.‏ وماأحداث سبتمبر‏2001‏ التي وجهت ضد رموز القوة الأمريكية سوي الاعلان الجهير بأن الارهاب الاسلامي قد تعولم‏,‏ وأصبح يمارس علي مستوي العالم كله‏.‏
والولايات المتحدة الأمريكية وضعت استراتيجية لتغيير الأوضاع الاستبدادية في الشرق الأوسط الكبير بما يضمه من دول عربية واسلامية متعددة‏,‏ تمتد من تركيا حتي باكستان‏,‏ تقوم اساسا علي فرض الديمقراطية فرضا علي النظم السياسية المستبدة‏,‏ التي بانغلاقها السياسي أدت الي شيوع الفكر المتطرف والارهاب‏.‏
وهذه المبادرة الأمريكية التي لاقت رفضا من قبل الحكومات والشعوب العربية‏,‏ نقلت الي مؤتمر الدول الثماني الكبري‏,‏ حتي تسهم في التصديق عليها وتمنحها مزيدا من القوة والتأثير‏.
وبغض النظر عن مصير هذه المبادرة في التطبيق‏,‏ فإنه يلفت النظر ان الولايات المتحدة الأمريكية ـ بناء علي تفكير استراتيجي وتحليل ثقافي متعمق ـ قامت بصياغة استراتيجية ايشمولوجية ونعني معرفية لأول مرة‏,‏ هدفها الرئيسي اعادة صياغة مفاهيم الاسلام الليبرالي‏,‏ ودعم الجماعات الاسلامية التي تتبناه‏,‏ وتشجيع المفكرين والمثقفين الاسلاميين الذين يرفعون لواءه‏.‏
والاسلام الليبرالي يعني به هذا الاتجاه من اتجاهات تيار الاسلام السياسي‏,‏ والذي لايري تناقضا بين مبادئ الاسلام وقيم الليبرالية والديمقراطية‏.‏ وهي تسمية علي كل حال تتسم بالغموض لأنه يقع تحت مايسمي بالاسلام الليبرالي تيارات شتي‏,‏ ومفكرون اسلاميون يختلفون اختلافات متعددة في رؤاهم للعالم‏,‏ وفي الحلول التي يتبنونها للمشكلات المعاصرة‏.‏
والاستراتيجية المعرفية الأمريكية التي نتحدث عنها عبارة عن وثيقة بالغة الأهمية أصدرتها الباحثة الأمريكية شيرل بينارد التي تعمل بقسم بحوث الأمن القومي في مؤسسة راند الأمريكية‏.‏ وهذه المؤسسة بحكم تاريخ نشأتها كمركز ابحاث استراتيجي لسلاح الجو الأمريكي‏,‏ تم تحولها من بعد الي مركز عام للدراسات الاستراتيجية الشاملة‏,‏ هي خير معبر عن العقل الاستراتيجي الأمريكي‏.‏
أصدرت بينارد كتيبا بعنوان الاسلام المدني الديمقراطي‏:‏ الشركاء والموارد والاستراتيجيات وذلك عام‏2003.‏ ويبدو انه لم يتم الالتفات الي أهميته القصوي الا عندما قامت مؤلفة البحث بنشر ملخص لأهم نتائجه بعنوان خمس عمد للديمقراطية‏:‏ كيف يمكن للغرب ان يدعم الاصلاح الاسلامي وذلك في ربيع هذا العام‏(2004).‏
ولو رجعنا لنص البحث الأصلي ـ وهو تحت أيدينا ـ لرأينا مؤلفته تقرر في التمهيد مايلي‏:‏
ان العالم الاسلامي منغمس في صراع لتحديد طبيعته وقيمه‏,‏ مع مايتضمن ذلك من نتائج خطيرة تمس المستقبل‏.‏ والسؤال هنا‏:‏ ماهو الدور الذي يستطيعه باقي العالم‏(‏ وتعني غير الاسلامي‏)‏ القيام به في هذا المجال‏,‏ وهو العالم الذي يهدده هذا الصراع‏,‏ ومن شأنه ان يؤثر علي مساره؟ وتعني ماهو الدور الذي يمكن ان يجعل هذا الصراع سلميا ونتائجه ايجابية؟ ان صياغة منهج دقيق للاقتراب من هذه المشكلة يتضمن فهما مرهفا للصراع الايديولوجي الدائم في الوقت الراهن داخل الاسلام‏,‏ بهدف تحديد الشركاء المناسبين‏,‏ وتعيين اهداف واقعية يمكن بلوغها‏,‏ ووسائل لتشجيع تطوير الفكر الاسلامي بطريقة ايجابية‏.‏
إن للولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالاسلام السياسي ثلاثة أهداف‏.‏ الهدف الأول هو وقف شيوع الفكر المتطرف واللجوء الي العنف‏.‏ والهدف الثاني هو رفع الشبهات التي قد تحيط بمسلكها ذلك باتهامها انها تعادي الاسلام‏.‏ والهدف الثالث انها ـ علي الأجل الطويل ـ عليها ان تجد طرقا لمواجهة الأسباب العميقة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تغذي الراديكالية الاسلامية وتشجيع حركة تسعي الي التنمية والديمقراطية‏.‏
ولاشك ان الجدل والصراع الدائرة داخل العالم الاسلامي حاليا قد يؤدي الي غموض الصورة الراهنة للخلافات الأيديولوجية الاسلامية‏.‏ ولأجل تيسير مهمة الفهم من الأفضل ألا تصنف الفاعلين باعتبارهم يمكن ان يندرجوا تحت هذه الفئة أو تلك‏,‏ ولكن علي أساس توزيعهم علي أفق ممتد له أطياف متعددة‏.‏ ومما يعمق الفهم ايضا تحديد آراء كل منهم بالنسبة لعدد من الموضوعات الأساسية‏,‏ وذلك ضمانا لتصنيفهم داخل هذا الأفق بشكل دقيق‏.‏
وفي هذا الضوء نعرف من هم الذين ـ من خلال آرائهم ـ من هم الأقرب الي القيم الغربية والأمريكية خصوصا‏,‏ ومن هم الذين يتبنون مواقف عدائية منها‏.‏
وبناء علي هذه الرسالة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لاستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الاسلامية الرئيسية والتي يجملها التقرير في أربعة وهي‏:‏ العلمانيون‏,‏ والأصوليون‏,‏ والتقليديون‏,‏ والحداثيون‏.‏ وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأمريكية حربا ثقافية إن صح ـ التعبير ـ ضد الاتجاهات الاسلامية العدائية‏,‏ وفي نفس الوقت تصوغ استراتيجية لدعم الاتجاهات الاسلامية القريبة من القيم الأمريكية‏,‏ ماديا وثقافيا وسياسيا لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والاسلامية‏.‏
ماسبق ليس سوي مقدمة وجيزة‏,‏ تشير ـ مجرد إشارة ـ الي الاستراتيجية الأمريكية لتطوير الاسلام الليبرالي حتي يصبح انصاره شركاء لأمريكا في الاصلاح الديمقراطي‏,‏ التي تسعي بكل قوتها وضغوطها علي الأنظمة العربية الي أن تحققه‏.