منذ زمن ونحن نعرف مصدر الأزمة في الشأن الفلسطيني، ليس الجبالي ولا موسى عرفات ولا قادة الأمن او وزراء الحكومة، انما آداب السياسة العربية لا تسمح لأحد ان يتجرأ على قول الحقيقة في القضايا الكبيرة. لهذا عاش الفلسطينيون في نفق معتم لعقود طويلة نردد معهم ووراءهم بقول ما لا علاقة له بما يدار ويدور.
مشكلة الفلسطينيين كانت دائما في قيادتهم، لا في قضيتهم ولا في تنظيمهم العسكري الذي صمد في ظروف مختلة التوازن النوعي والكمي لصالح إسرائيل. أدارت القيادة الفلسطينية الأمور الداخلية بإرضاء المتنازعين وفق مبدأ سددوا مرة، وبشراء الوقت مرة أخرى، وبكل وسيلة تحول دون منازعتها على السلطة وغالبا على حساب القضية الكبرى نفسها. وما انفجار معركة الأجهزة الأمنية الأخيرة إلا نتيجة طبيعية للتوازنات المركبة لا مصلحة للعمل الوطني فيها. أسلوب القيادة في الشأن الخارجي أدير أيضا بنفس المنهج، فيه جمع المواقف المتناقضة معا، والتخفي وراء المعلومات الخاطئة أحيانا. ولهذا لم يعد أحد في المعسكر العربي يصدق كثيرا ما يرد من القيادة الفلسطينية، وأغلقت معظم الحكومات العربية أبوابها متحاشية التورط في أي عمل مشترك له صلة بقيادة أبوعمار. والحقيقة ان رأي وموقف العرب والأجانب ليس مهما مقارنة بما يحدث في الداخل، ولا أريد في هذه المساحة الضيقة استعراض الأخطاء الخطيرة في مسيرة إدارة "الدولة" منذ عودة قيادة المنفى، او ما سبقها عندما اخذ فلسطينيو الداخل، مثل حيدر عبد الشافي، زمام المبادرة لتختطف قيادة تونس المهمة وتدخل غزة واريحا رافعة العلم الفلسطيني بفضلهم. ما تلاه، وقامت به القيادة منذ ذلك الحين، كان جملة أخطاء خطيرة عكست ضعف الإدارة، وإرضاء التوازنات الداخلية، مقدمة المصالح الذاتية على مصلحة القضية.
سنوات خلفت جملة كوارث سببت سلسلة من المآسي السياسية والإنسانية للشعب الفلسطيني هبطت أضرارها إلى أدنى التفاصيل في حياة الناس حتى لم يعد، كما شرح لي احدهم، محل لبيع الشاورما في غزة إلا ويدفع إتاوات لبعض الفاسدين في السلطة التي بدت قيادتها عاجزة عن السيطرة عليهم. ولا يوجد عندي شك في ان الإسرائيليين كانوا سعداء بالهيكل العظمي المتهالك للقيادة الفلسطينية التي نخرت جسمها الخلافات، وتنازعت صلاحياتها التنظيمات المنافسة، وهشم الفساد سمعتها عند مواطنيها. كان بامكان الإسرائيليين القضاء على رموز القيادة كما فعلوا مع تنظيم حماس، وكان سيكلفهم ذلك أسبوعا من العويل والتنديد وسينساه الجميع بعد حين، لكنهم لم يفعلوا لأن القيادة الفلسطينية، بتخبطها ومرضها وتناحرها وفسادها، كانت اعظم كتيبة في المشروع الإسرائيلي. لذا اكتفى الإسرائيليون بالتفرج على القيادة الآيلة للسقوط مع قمع ما يفلت منها وعنها. وخلت الساحة الدولية إلا من المتفرجين حيث نفض العرب أيديهم، مبتعدين عن التورط مع القيادة الضعيفة.
أخيرا، على الفلسطينيين أن يدركوا أنهم بلا قيادة قوية متماسكة لن يستطيع احد ان يفعل شيئا لهم، فالحل كان ولا يزال من الداخل.