لا أستطيع إرجاء التعليق على أحداث غزة المأساوية، حيث يغرق القطاع في الفوضى، التي حذرنا منها طويلاً, كنت أستعد للتعليق هذا الأسبوع على ما جاء في كتاب بيل كلينتون حول الصراع العربي الإسرائيلي، وبخاصة إضاعة فرصة مبادرة كلينتون وذلك قبل أن تداهمنا هذه الأحداث «الكارثية».
سأدقق في كل حرف وفاصلة في الكتاب لأنّ ما يجري من أحداث هذه الأيام، هو في بعض جوانبه، نتاج إضاعتنا لفرصة تلك المبادرة.
كانت الانتفاضة الشعبية- الانتفاضة الحقيقية- قد أكملت أسبوعها العاشر مع صدور المبادرة، لتحقق نتائج باهرة، أجبرت الرئيس الأميركي الحالم بجائزة نوبل للسلام أن يعدل مواقفه كما تحدث عنها في كامب ديفيد، وأجبرت إيهود باراك أن يعدل مواقفه، هو الآخر، كما كان قد تمسك بها في مفاوضات «الكامب» العقيمة، ليوافق على أن كل ما هو عربي في القدس للعرب، وعلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة فوق 97 في المئة من الأرض، مع تبادل في الأراضي وعلى أن تتحمل إسرائيل جزءاً من مسؤولية حل مشكلة اللاجئين, إذن كانت الانتفاضة تريد الاستقلال الوطني على الأراضي المحتلة عام 1967، فقد تحقق ذلك في وثيقة كلينتون، بصورة أو بأخرى، ولما ترددت قيادتنا في الإمساك بلحظة الخصوبة التاريخية، فقد أفسحت المجال بالضرورة لآخرين كي يملكوا زمام المبادرة، ويعسكروا الانتفاضة ويطرحوا مطالب خيالية غير قابلة للتحقيق، مثل إخراج اليهود من فلسطين, وبالمناسبة، وحسب الأرقام، فإنّ عدد الفلسطينيين الذين أخرجتهم الأساليب اللاعقلانية لانتفاضة «المتشددين الفلسطينيين» من فلسطين، يزيد كثيراً عن عدد اليهود الذين غادروا البلاد, ومن يرد معرفة الحقيقة، فليحتكم للأرقام من مصادرها الأولى: مصادرها الإحصائية، لا أريد نشر ذلك، لاعتبارات عديدة، على الأقل في هذه المرحلة,
ولكن ما علاقة هذه المقدمة بما يحدث في غزة؟
وأجيب على الفور، بأن العلاقة وثيقة تماماً، فأنت حين تطرح هدفاً غير قابل للتحقيق، وتحرم رجالاتك من النصر على العدو الخارجي بسبب مطلبك الخيالي، فإنهم بحكم الطبيعة والضرورة، سيتجهون للبحث عن نصر داخلي، ضد من يعتبرونهم أعداءً ومن يحملونهم مسؤولية الأوضاع المتدهورة، ومن هم فاسدون، يسهل تحميلهم وزر الكارثة، وفي ذلك بعض الحق على أية حال, ذلك ما حدث في نهاية ثورة 1936، بخاصة عام 1939 .
فالثورة الفلسطينية آنذاك حققت، مثل انتفاضتنا في أسابيعها العشرة الأولى، إنجازاً كبيراً وهو الكتاب الأبيض لعام 1939. ذلك الكتاب الذي أصدرته بريطانيا -الدولة المنتدبة على فلسطين، ووصفته الحركة الصهيونية بأنه «الكتاب الأسود»، وطالب ديفيد بن غوريون زعيمهم آنذاك، بمحاربة الكتاب الأبيض/الأسود، بكل وسيلة ممكنة,
ذلك الكتاب كان في حالة تطبيقه، سينهي الهجرة اليهودية إلى فلسطين نهائياً، بعد خمس سنوات: في أواسط عام 1944، وفي تلك السنوات الخمس يجري تقنين الهجرة والسماح بهجرة 15 ألف يهودي سنوياً فقط, رفضت قيادة شعب فلسطين آنذاك، الكتاب الأبيض، تماماً كما رفضت قيادة هذا الزمان مبادرة كلينتون, وحين رفضت قبول عرض «اللحظة التاريخية» فقد وجد ثوار ذلك الزمان، مثل ثوار هذا الزمان، أن لا سبيل أمامهم لاستخدام ما تبقى من سلاح، ولإيهام النفس بالانتصار، سوى القيام بتصفيات داخلية، وكان ما كان، من عجائب الدهر والزمان,
لكنّ ما يحدث في غزة، وما سيحدث لاحقاً في الضفة الغربية، رغم كل الادعاءات ورغم القوة والنصر، على حد تعبير محمد حسنين هيكل، يعود لأمر آخر إضافي ومهم جداً، وهو رفض الإصلاح والتغيير، وإبقاء الفاسدين والمفسدين في مواقع قيادية رئيسية، رغم أن فسادهم أزكم الأنوف، ورغم التاريخ الأسود للعديد منهم، داخل الوطن وفي عواصم المنافي، والحقائق معروفة للجميع,
أنت لا تستطيع أن تؤجل الإصلاح بسبب وجود الاحتلال، وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فمقاومة الاحتلال تتطلب استنهاض الطاقات وبناء وضع داخلي قوي ومتين، قادر على المجابهة, هذا ما تقول به تجربة كل الحركات الوطنية الناجحة في التاريخ الإنساني برمته، ولسنا استثناءً بالضرورة,
الحديث عن الفساد في الساحة الفلسطينية وصل درجة لا يمكن أن يأتي بعدها إلا الانفجار، ومن يزينون لهذا القائد أو ذاك أن الأمور على ما يرام، يخدعونهم في وضح النهار، إنهم يأكلون على موائدهم، وسيضربون بغير سيوفهم، حين يجد الجدّ,
أنت، حين ترفض محاسبة الفاسدين الذين يلعبون بالملايين من قوت الشعب، في بلد تبلغ نسبة البطالة والفقر فيه 60 في المئة، فإنك تدفع المجموعات المسلحة، الوطنية والجنائية على حدّ سواء، لتتصرف وتأخذ القانون بيدها, لا مناص من حدوث ذلك، إذ لا فائدة من العناد والمكابرة في وقف تفاعلات صاخبة، تجري تحت السطح منذ سنوات، والمرجل يغلي منذ زمن، وأهل الحلّ والعقد، منشغلون بما هم منشغلون فيه,
لا أحد يقبل مقولة أن الإصلاح في الساحة الفلسطينية مطلب أميركي -أوروبي، يجب رفضه, إنه ، في ساحتنا، وفي ظروفنا الخاصة، مطلب شعبي منذ زمن طويل، وكان يمكن له ولا أعرف إذا كان مازال ممكناً، أن يسير في قنوات واضحة قانونية ومؤسساتية، ويغير الصورة العامة بالكامل, ولما لم يتم تسليك هذه القنوات، وجرى إغلاقها بقوة، بالإسمنت المسلح، وبالعناد والمكابرة، وبنفاق القوم لصاحب القرار، وإيهامه أن هؤلاء قلة مدفوعة من الخارج، فقد سارت الأمور نحو العنف المنفلت من عقاله، والذي حفر لنفسه قناة خاصة من تجاهل القانون أو أخذه باليد، دون استئذان من أحد,
صدقوني أن أي قارئ للتاريخ، وللتاريخ الفلسطيني على وجه التحديد، سيصل لاستنتاج واحد وحيد، وهو أن ما حدث في غزة، هو البداية فقط، هو رأس الجبل الذي يتململ للانهيار، في كل مكان، ما لم يتدارك العقلاء الأمر ويوقفوا الانحدار، بتطبيق الإصلاح سريعاً جداً، وبإحالة الفاسدين للقضاء، دون أي تردّد، اليوم قبل الغد, في لحظات ما قبل الانفجار الكبير، فإنّ الأمور تقاس بالدقائق، وليس بالساعات أو الأيام,
أشعر بالألم الشديد، إذ أصل لهذا الاستنتاج المرعب، لكنني لا أخدع نفسي، ولا أخدع الآخرين، والرائد لا يكذب أهله,
كثيراً ما كتبت في مثل هذه المناسبات الحزينة: «ليتني لم أقرأ تاريخنا بكل هذه التفاصيل حتى لا أصل لمثل هذه الخلاصات المرعبة, ليتني كنت حماراً وطنياً، بعد الاذن من المرحوم الصديق خالد الحسن، الذي أصدر كتاباً يحمل هذا الاسم»,
ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.