الثلاثاء: 25. 10. 2005

... بين الإيديولوجيا والواقعية

بإخراج الهند من الفضاء الحضاري للثقافة العربية، تكون حدود هذا الأخير ممتدة من حدود إيران مع الهند والصين وروسيا شرقا، إلى المحيط الأطلسي، من إنجلترا إلى السنغال، غربا، ومن شمال تركيا وشمال أوروبا إلى اليمن والسودان جنوبا· ويجب ألا نعطي لهذه الحدود من المعنى والدلالات أكثر من كونها حدودا موجية، فهي ترسم
بإخراج الهند من الفضاء
الحضاري للثقافة العربية، تكون حدود هذا الأخير ممتدة من حدود إيران مع الهند والصين وروسيا شرقا، إلى المحيط الأطلسي، من إنجلترا إلى السنغال، غربا، ومن شمال تركيا وشمال أوروبا إلى اليمن والسودان جنوبا· ويجب ألا نعطي لهذه الحدود من المعنى والدلالات أكثر من كونها حدودا موجية، فهي ترسم خطوطا تقريبية لتلاشي الموجات الثقافية المنبعثة من المركز، سواء كان هذا المركز في الشرق الأوسط (المدينة المنورة، دمشق، بغداد، خراسان)، أو في حوض البحر الأبيض المتوسط (القاهرة، مراكش، فاس، إشبيلية، وقرطبة) أو في مكان ما من أوروبا الحديثة (روما، باريس، برلين، لندن)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب ألا نغفل الحقيقة التاريخية التالية وهي أن اتجاه الموج الثقافي داخل هذا الفضاء الحضاري الواسع لم يكن وحيد الاتجاه، بل تارة يكون من الشرق إلى الغرب أو العكس، وأخرى من الجنوب إلى الشمال أو العكس· ففي العالم القديم كانت الموجات الثقافية تنطلق من بلاد الرافدين ومن مصر في اتجاه الشمال والشرق، أو من بلاد اليونان والرومان في اتجاه الشرق والجنوب، أو من بلاد فارس في اتجاه الغرب والجنوب· أما بعد ظهور الإسلام فالاتجاه السائد كان من المدينة ودمشق وبغداد إلى سائر الجهات، في المرحلة الأولى· ثم من القاهرة وفاس وقرطبة في المرحلة الثانية· وأما في العصر الحديث فقد انقلب اتجاه الرياح وصار اتجاه الموج الثقافي من الغرب إلى الشرق، من أوروبا إلى جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه·
سيكون علينا إذن أن نشرح بشيء من التفصيل توزع الأنماط الثقافية، داخل هذا الفضاء الحضاري الشاسع، وبيان مميزات كل منها وكيفية تداخلها، لنلقي في آخر المطاف نظرة موجزة على صورة النمط الثقافي العربي بعد تحول المركز إلى أوروبا الحديثة، وما كان من تأثير للثقافة العربية جملة في حضارة أوروبا وما كان لهذه من تأثير على الحضارة العربية·
لنبدأ بالنمط الثقافي العربي ''الخالص''، وبالتحديد من نقطة انطلاقه، في الصورة المؤدلجة التي لدينا عنه، والتي ندعوها: العصر الجاهلي·
أما أن يكون عرب الجزيرة العربية، فيما أطلق عليه الإسلام اسم ''الجاهلية''، يتوفرون على ثقافة معينة وبنية عقلية خاصة، تنتمي إلى هذه الثقافة، فهذا ما لا يمكن الشك فيه إلا إذا أمكن الشك في وجودهم المادي نفسه· وأما أن تكون الصورة التي لدينا نحن اليوم عن العصر الجاهلي -بوصفه زمنا ثقافيا وبنية عقلية خاصة- نسخة طبق الأصل للواقع الثقافي الفكري الذي عاشه عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام، فهذا ما لابد لنا من مناقشته ووضعه موضع السؤال·
والواقع أن كتب التراث، وكذلك الدراسات الحديثة، تقدم لنا عن العصر الجاهلي هذا صورتين مختلفتين إلى درجة التناقض:
- هناك من جهة الصورة التي تبدو وكأن كل وظيفتها تبرير وصف ذلك العصر بـ''الجاهلي''· و''الجاهلية'' مصطلح إسلامي يقصد به، ليس الجهل، بمعنى عدم العلم وانتفاء المعرفة فحسب، بل أيضا، ولربما كان هذا هو المقصود، ما يرافق الجهل وينتج عنه من الفوضى وانعدام الوازع الجماعي سياسيا كان (الدولة) أو خلقيا (الدين)· ومن هنا تشبيه الجاهلية بالظلمات والإسلام بالنور· فالظلمات تعني هنا الفوضى والتطاحن وغياب أفق مستقبلي، في حين يعني النور تحديد العلاقات والمسؤوليات وتوضيح الآفاق· ولا أحد يشك في أن وضعية العرب بعد الإسلام هي غير وضعيتهم قبله، وهل هناك من تحول أعمق وأشمل من الانتقال من مجتمع قبلي منغلق، مجتمع بدون دولة وبدون قانون سوى العرف القبلي، إلى مجتمع عالمي منظم ومتفتح تقوده دولة تتوافر لديها كل مقومات الدولة ومن جملتها القانون المسطور (الفقه)؟
- وهناك من جهة أخرى -وفي أذهاننا دائما- صورة عن العصر الجاهلي غير تلك التي أبرزنا بعض معالمها، صورة قوامها حياة فكرية نشطة، وأسواق للفكر والثقافة، وقدرة على الجدال والنقاش والمحاجة· ليس هذا وحسب، بل إن المرء لا يسعه إلا أن يلاحظ أنه لو لم يكن العرب ذوي ثقافة في مستوى معين لما جادلوا القرآن، ولما قالوا عنه إن هو إلا ''سحر يؤثر'' من جنس سحر الشعر وسجع الكهان·· إلى غير ذلك من الاعتراضات التي سجلها القرآن ورد عليها· أضف إلى ذلك ما اصطلح كتاب السيرة على تسميته بـ''دلائل النبوة''، أي مختلف البشارات والتطلعات والتحركات التي مهدت الجو لقيام الدعوة المحمدية· ويجب ألا نغفل ما عرفته الجزيرة العربية، شمالها وجنوبها وشرقها إضافة إلى الإسكندرية، خلال القرون التي تفصل بين ظهور المسيحية وظهور الإسلام، من تيارات فكرية نشطة متحركة بعضها علمي فلسفي (مدارس حران والرها ونصيبين وجنديسابور) وبعضها ديني تمثل في تيارين: أحدهما نصراني معارض للكنيسة الرسمية لدولة الاحتلال البيزنطي، وبالتالي مستقل عنها، لم يخف كثير من أساقفته تطلعهم إلى تغيير الوضع من خلال ظهور نبي جديد، والآخر ''حنيفي''، أطلق على رجاله اسم ''الحنفاء''، حاول هو الآخر تجاوز الصراع، داخل المسيحية حول طبيعة السيد المسيح عليه السلام، إلى نشدان الأصل: ''الدين الحق''، دين إبراهيم·
نحن إذن أمام صورتين مختلفتين عن العصر الجاهلي تقدمهما لنا كتب التراث· وبالرغم من أنه يمكن قبول الصورتين معا، وفي آن واحد، باعتبار أن إحداهما تعكس حياة البدو والأخرى حياة الحضر، أو أنهما تمثلان مظهرين من مظاهر ذلك العصر ككل، فإنه من الضروري الانتباه مع ذلك إلى أن صورة العصر الجاهلي في الوعي العربي لم تكن دوما وليدة المعطيات التاريخية وحدها، ولا نظن أنها كذلك اليوم؛ بل كانت، وما تزال، خاضعة لمتطلبات تنتمي إلى ''الحاضر''، حاضرنا نحن أو حاضر من كانوا قبلنا· وإذا شئنا الدقة قلنا إنها خاضعة لمتطلبات ''الحاضرَيْن'' معا، باعتبار أنها صورة ينقلها خلف عن سلف، لكل منهما ما ''يريده'' منها· كان هناك من أراد من العصر الجاهلي أن يكون (لغة وثقافة) مرجعا في فهم القرآن وتفسيره، وكان هناك من أراد منه أن يكون تراثا تستند إليه الدولة في تبرير جزء من شرعيتها، وكان هناك من أراد منه أن يكون سندا له في الصراع على السلطة السياسية والثقافية بين مكونات المجتمع الإسلامي· وأخيرا وليس آخرا كان هناك من وظفه في بعث الروح القومية العربية ضد الأجنبي المحتل في العصر الحديث· وهكذا بقيت صورة العصر الجاهلي، منذ ظهور الإسلام إلى اليوم، موضوعا لإعادة إنتاج مستمرة حسب الحاجة· وإذن فالصورتان اللتان تنتصبان في الوعي العربي، اليوم وقبل اليوم، عن العصر الجاهلي لا تعكسان حقيقة هذا العصر وحده بل تعكسان، ولربما بدرجة أقوى، الظروف التي تم فيها رسم معالم الصورتين وترسيمهما لأول مرة، وهي ظروف الدولة الإسلامية في عصر التدوين· ذلك لأن ما نعرفه وما عرفه أجدادنا عن الجاهلية وصدر الإسلام إنما يرجع الفضل فيه إلى تلك العملية الشاملة، عملية البناء الثقافي التي تمت خلال ''عصر التدوين''، (القرنين الثاني والثالث للهجرة)·