الأيديولوجيا الإسلامية ظهرت بعد موت الأيديولوجيات ولجأت إلى العنف لفوات عصرها
جورج طرابيشي: الانتلجنسيا العربية رثّة ولهذا نصبتْ من الجابري أستاذاً
أجرى الحوار: اسكندر حبش
جورج طرابيشي، الدقة والتمحيص وسواسه. قدم على هذا أمثلة مدهشة. التحري الثقافي الذي هو يحول ابحاثه غالبا الى رواية شبه بوليسية، لكن جورج طرابيشي ليس lt;lt;محققاgt;gt; فذا فحسب. بل هو قبل ذلك لاعب افكار. بل ويمكننا القول انه حارق افكار، قلقه لا يهدأ ومهما حاول ان يهدئه بالتوثيق والتدقيق فإنه اقوى من ان يهدئه شيء. رباعيته في تتبع الجابري عمل رفيع ليس له نظير في العربية، وهو فوق ذلك رحلة بالغة المتعة في التراث العربي. كان لنا معه هذا الحديث.
لنبدأ بالعودة إلى تلك الفترة التي كان اسمك يقترن فيها بإسمين، على الرغم من فارق العمر على الأرجح، وهما ياسين الحافظ والياس مرقص. لماذا كان اسمك يقترن بهما، وما هو، باختصار، المشروع الذي جمعكم أنتم الثلاثة؟ هل بقي من هذا المشروع أي شيء بالنسبة إليك، هل بقي منه شيء في موقعك الحالي، في موقفك الحالي، إذا جاز التعبير.
الواقع أن هذا الثلاثي، الذي تشير إليه قد غادر مسرح التاريخ، فلنقل تاريخ الثقافة، ولربما أيضا تاريخ السياسة. ولكن هذا لا يعني أن أثره تلاشى فيّ تماما. فأنا لا زلت أنتمي إلى هذا المثلث من الناحية النفسية على الأقل. ما الذي جمعني بالياس وبياسين وهما بالعمر أكبر مني، وبالفكر أسبق مني آنذاك؟ هو أنهما كانا متمردين على الأرثوذكسية الماركسية، على الأرثوذكسية الشيوعية، وبخاصة من طرف الياس مرقص أما من طرف ياسين فقد أضاف إلى تمرده تمردا آخر وهو التمرد على الأرثوذكسية البعثية، إذا جاز التعبير. هذا التمرد هو الذي بقي فيّ. فأنا دوما أنمي نفسي، إلى البدعة لا إلى السنة، لا إلى الأرثوذكسية. وفي تلك المرحلة من حياتي الفكرية وتطوري السياسي والإيديولوجي، انتميت إلى الماركسية انتماء معلنا، ولكني انتميت إلى الهرطقة الماركسية وليس إلى أرثوذكسيتها...
بمعنى؟
في تلك الفترة انصرفت إلى الترجمة والتأليف، لكن إلى الترجمة بشكل خاص. انصرفت إلى ترجمة الآثار اللامتداولة، ولا أقول الممنوعة من التداول، لماركس. ترجمت له كتاباته عن الجزائر، وكانت مخفية عن الأنظار لأن فيها مواقف لماركس لا يعلن فيها فك تضامنه مع الاستعمار الفرنسي للجزائر. وترجمت كتاباته عن الهند وعن روسيا. كل هذه الكتابات كانت لا تتواءم مع النظرة الأرثوذكسية الماركسية الشائعة عن ماركس، التي كان يريد إشاعتها عنه، بأنه وضع في رأسه مناهضة الاستعمار. في الحقيقة لم يكن هذا هو هم ماركس، كان همه التحديث وبالتالي كان يرى في الاستعمار أحيانا وسيلة للتحديث لم يعترض عليها وان اعترض على همجيته وما يرتكبه من مجازر في هذا السبيل. قدمت هذا الوجه اللاأرثوذكسي لماركس. ترجمت إلى العربية كتابات لينين ولكن أي لينين؟ كانت تطبع مجلداته في 36 جزءا، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، والذي أحدث علامة تاريخية كبرى، بدأوا يردون إلى كتابات لينين الكاملة، ما كان أسقطه منها ستالين. فتضخمت المجلدات من 36 جزءا إلى 45 مجلد، في أيامي تلك. يعني أضافوا إليها 9 مجلدات جديدة وكلها تحتوي على كتابات منع تداولها في عهد ستالين، فترجمتها. ترجمت كتاباته عن المسألة الوطنية، عن المسألة القومية وكان ممنوعا، بحجة الأممية الشيوعية، الحديث عن هذا الموضوع، كان من المحرمات. قدمت لينين بالصورة غير المتداول بها في الحقل الثقافي آنذاك للماركسية. لم أتوقف عند هذا الحد، قدمت تروتسكي. كنت أول من ترجم تروتسكي إلى العربية، على حد علمي، قد أكون مخطئا، لكن أول كتاب ظهر لتروتسكي بالعربية كنت اول من ترجمه. ترجمت أيضا لبليخانوف وزينوفييف وبوخارين. ترجمت حتى كاوتسكي المرتد عن الماركسية. أردت أن أقول أن كاوتسكي نفسه، الذي وجهت إليه تهمة الارتداد كان ماركسيا على طريقته الخاصة، على طريقته الأوروبية الغربية وليس على الطريقة الروسية الشرقية. ثم ترجمت لغارودي ليس غارودي الأرثوذوكسي الشيوعي بل المنشق عن الماركسية والذي بدأ اجتهادا جديدا وقبل أن يتحول نحو المسيحية والإسلام. هذه البنية النفسية دائما فيّ أنا أنتمي إلى الهرطقة ولا أحب أن أنتمي إلى الجماعة، لأنني أعتقد أن الجماعة لا تفكر. الهراطقة يفكرون لأنهم أفراد. هذه البنية مستمرة في نفسي وأعتقد أنها لا زالت مستمرة حتى الآن، حتى في كتاباتي عن التراث العربي والإسلامي، أقول هذا ما بقي مني من ماركسيتي أو من انتمائي إلى ذلك الثلاثي، الذي كنا نشكله والذي كنت فيه الزاوية الأصغر سنا.
من الماركسية الى فرويد
من الماركسية إلى التراث العربي، ما الذي قادك في هذه الرحلة؟
في الحقيقة لي قبل الماركسية نفسها، لي مرحلة وجودية، كنت نصيرا كبيرا لسارتر في الساحة الثقافية العربية وترجمت له الكثير إلى العربية، وقبلها كنت قوميا أنتمي إلى التيار القومي العربي، وبعدها اشتغلت كثيرا في مجال التحليل النفسي، إذا هناك فيّ نوع من البداوة الفكرية في مساري، ولكن أنا ابن عصري وكان عصرنا هو عصر الايديولوجيا بامتياز وفجأة نكتشف أن الايديولوجيا فقدت مصداقيتها وثبت لنا لي شخصيا ما قيل لنا بأنها وعي كاذب أي وعي غير مطابق لموضوعه. التالي أصبح لدي نوع من المراجعة الذاتية لحساباتي، فكما في الفترة الأولى وكما انتصرت للماركسية على القومية جاء وقت وضعت فيه الماركسية في ضوء النقد والتحليل والمراجعة واكتشفت إنها لا تمثل لا بذاتها ولا في حياتي سوى طور إيديولوجي. نقلتي المعرفية جاءت عبر التحليل النفسي وقد عشت في الواقع 15 عاما مع فرويد أترجمه، إذ قدمت في العربية أكثر من 30 عنوانا له، وطبقت التحليل النفسي على دراسة الرواية العربية بشكل موسع عبر عدة دراسات لي حول الرواية العربية. لقد مثل لي فرويد النقلة من الايدولوجيا إلى المعرفة...
لماذا فرويد بعد ماركس؟
لأني في الحقيقة سألت نفسي لماذا أحب دائما هذه الهرطقة الدائمة، وهنا اكتشفت عقدي النفسية، الأوديبية بصراحة، ففتح لي أفقا لأفهم نفسي، لأفهم فهمي لنفسي، فهذا الفتح الذي قدمه لي فرويد، ساعدني على تغيير لا نفسي فقط بل ساعدني على فهم فهمي للثقافة وللفكر. لا نستطيع أن نصر على القول إن للفكر حياة بريئة طاهرة، الحياة الفكرية ومهما كانت صافية هي متورطة في دوافع لا شعورية. بهذا المعنى قدم لي فرويد مساعدة كبيرة على تحريري من الأيديولوجيا. ولكنه لم يكن آخر الشوط، لأنني حتى في عهدتي الأوديبية إذا جاز التعبير، اكتشفت بدوري أنني أريد أن أتمرد على فرويد وبالتالي لم أتوقف عند هذا الأب الكبير الذي خلقته لنفسي. تجاوزته وهنا كانت النقلة من الايدولوجيا إلى المنهج العلمي المعرفي الذي يقدمه التحليل ثم إلى نقلة ثالثة هي الإبستيمولوجية (نظرية المعرفة) أو معرفة المعرفة مطبقة على التراث العربي الإسلامي. أما لماذا التراث العربي الإسلامي فلأني دوما ابن عصري وابن مرحلتي، كنا في المرحلة القومية وكانت النظرية القومية هي الأساس، وقدمت فيها كتابا أحدث ضجة في حينه lt;lt;الدولة القومية والنظرية القطريةgt;gt; وفيه تنبأت بفكرة موت القومية العربية، على يد الدولة القطرية. لما فتحنا أعيننا بعد هزيمة 67، وجدنا ان الساحة العربية بدأ يجتاحها خطاب جديد هو الخطاب الإسلامي، وهذا الخطاب تصاعدت موجته في الثمانينيات والتسعينيات حتى بلغ الأوج وبالتالي كابن لهذه المرحلة كان لا بد ان أقول لم يعود هذا الخطاب؟ أجريت لذلك دراسة أولى تحت عنوان lt;lt;المثقفون العرب والتراث التحليل النفسي لعصاب جماعيgt;gt; (صدر العام 1990) وفيه أطبق منهج التحليل النفسي على ظاهرة الخطاب الإسلامي، مددت الخطاب العربي المعاصر على سرير التحليل النفسي واكتشفت ما هي معيناته اللاشعورية لا معيناته المعرفية والايديولوجية فحسب واكتشفت فيه خطابا عصابيا مريضا بالغرب، بعقدة الغرب والتفوق الغربي ومريضا بالجرح النرجسي الذي مثله ليس فقط التفوق الغربي بل أيضا الطعنة التي تمثلت بانتصار اسرائيل، انتصار داوود الصغير على العملاق العربي الكبير، فقلت إن هزيمة 67 لم يتحملها الوعي العربي القائم لأنه لم يكن يتوقعها لأنها جاءت من عدو صغير، لتضرب امة كبيرة، وهذه ضربة يقال عنها في علم النفس انها صدمة لا يتحملها الجسم لا تتحملها البنية النفسية، فيدافع المريض عن جسمه برد فعل عصابي أو نكوصي إلى الوراء، فيحتمي بأب مثلما يحتمي الطفل بأبيه، أو كما يحتمي الجنين في رحم أمه. ومن هنا كانت العودة الهائلة المذهلة إلى التراث والخطاب التراثي بعد هزيمة 67. أفادني منهج التحليل النفسي كثيرا في قراءة هذا الخطاب باعتباره خطابا مريضا عصابيا يهرب من واقع الهزيمة نحو امثل ما في التاريخ الماضي، يحتمي بها من هذه الأم الشريرة التي تدعى إسرائيل وحاضنتها الأكبر التي تسمى أوروبا أو أميركا والغرب. من هنا كان مدخلي الكبير، إذ لم يكن في الإمكان أن أقف عند الخطاب العربي المعاصر، بل أن أبحث أيضا عن جذوره التاريخية ومن هنا عودتي بل رحلتي الطويلة مع التراث العربي الإسلامي، التي بدأت مع صدور كتابي lt;lt;الخطاب العربي المعاصرgt;gt; حيث بدأت أتوجه أكثر فأكثر نحو الدراسات التراثية، وكان هذا بداية التحول الكبير لأني أشعر الآن بأن المعركة تدور على أرضية هذا التراث. في الحقيقة، وليست على أرضية الواقع نفسه.
أدلجة الاسلام
هل تعتبر أن الحركة الإسلامية الجديدة التي تحدثت عنها هي أيضا نوع من إيديولوجيا جديدة؟
الإسلام السياسي هو نموذج بديل عن الايدولوجيا القومية والايدولوجيا الماركسية، هو نموذج لايديولوجيا مكتمل ومنغلق على ذاته وبالتالي هو نموذج لوعي كاذب، أو صادر عن وعي كاذب أي ما أسميه بوعي غير مطابق لواقعه الذي هو الإسلام نفسه والنصوص المؤسسة للإسلام نفسه. الإسلام السياسي هو ايديولوجيا أكاد أقول إنها لا تعرف الإسلام على حقيقته، هي تؤدلج الإسلام، من هنا الحاجة إلى إعادة قراءة النصوص وإعادة قراءة التاريخ لكي ندرك مدى افتراق الإيديولوجيا الإسلامية الجديدة، عن الينبوع الإسلامي الحقيقي والتاريخي والنصوصي حتى. مثلا، وكما تعرف أن نقطة الانطلاق حين يعرفون الايديولوجيا الاسلامية، يقال في تعريف الاسلام انه دين ودولة، والقول بالحاكمية الإلهية، هاتان هما الركيزتان الأساسيتان التين يقوم عليهما الاسلام السياسي. الاسلام دين ودولة هو شعار كان أطلقه كما نعرف حسن البنا المؤسس الأول لحركة الاخوان المسلمين، لكن كلمة دولة لا وجود لها لا في النص القرآني ولا في الأحاديث، سواء منها الصحيح أو سواء منها الموضوع، فكيف تعرف الاسلام اليوم بمفردة ليست من مفرداته إلا إذا كانت ايديولوجيا، عندها يصح هذا التعريف.
عندما نتحدث عن الأصولية والقوموية والاسلاموية والأصولية الاسلاموية والأصولية القوموية إذا جاز التعبير، عندما نتكلم عنها كايديولوجيا مكتملة، ألا نرى أن هذه الايديولوجيا المعاصرة على نحو ما، تعكس ايديولوجيات توتاليتارية راهنة. انها تعكس على نحو ما، ما نسميه بحركة التحرر الوطني وما نسميه بالنظام السوفياتي... مثلا. عندما أسمع نظرية ولاية الفقيه. فان ذلك يستدعي على نحو ما، ديكتاتورية البروليتاريا هذه النظرية تستدعي عز اللينينية...
ذلك ينطبق على فكرة الحاكمية الالهية أيضا، الواقع ان مأساة الايديولوجيا الاسلامية ومأساتنا مع هذه الايديولوجيا في آن واحد في أنها رأت النور في عصر ومرحلة موت الايديولوجيات، هذه نقطة أساسية، ومن هنا عنفها حتى قبل أن تستلم السلطة. الايديولوجيات الشمولية التي قامت في عصر الايديولوجيات لم تصبح عنيفة إلا حين استولت على السلطة، سواء في ألمانيا النازية أو في ايطاليا الفاشية أو في روسيا الستالينية. عندما جف رحم الايديولوجيات خرجت الايديولوجيا الإسلامية ومن هنا ظهرت وهي تحمل كل الموروث الايديولوجي واحتمال تحولها إلى توتاليتاريات أو إلى أنظمة شمولية، بالإضافة إلى ذلك حملت معها منذ ولادتها بذرة العنف لأنها ظهرت بعد فوات عصرها وبالتالي ستفرض نفسها لا بقوة الفكر ولا بقوة الخطاب وحده بل أيضا بقوة العنف. وهذا ما يفسر انه من البدايات الأولى، اقترنت الحركات الإسلامية بالعنف.
كيف تفسر هذا التناقض، لماذا وفي عز موت الايديولوجيات، نجد هذه الحركة وبدلا من أن تلجأ إلى الخطاب...
في البداية، حركة الأخوان المسلمين مارست بعض أعمال الاغتيال في تاريخها، وهذا نادرا ما فعلته الحركات السياسية الأخرى، كالشيوعية وسواها قبل استلام السلطة. الايديولوجيات القومية واليسارية، في العالم العربي، عندما تسد المنافذ والمنافس امامها فإنها تتحول إلى إرهاب. لا لأن المنافذ سدت على الحركات الأصولية مارست أعمال عنف وأعمال اغتيال فقد فعلت ذلك منذ ظهورها الأول... لها في ذلك تاريخ، ولكن الآن يميل هذا التاريخ أكثر فأكثر الى العنف ليس فقط لأن هناك قمع لها، ولكن أيضا لأنها تناضل في أفق مسدود تاريخيا عليها، هذا هو اعتقادي العميق، هي في مأزق، حتى ولو انتصرت، فهي في مأزق.
لماذا الجابري
لماذا الجابري؟ سأرجع أولا إلى بنيتي النفسية، عندما قرأت الجابري لأول مرة سحرني ودهشني، نصبته بديلا عن أب مثالي، وتصورت انه يفتح لي مفاتيح التراث ويقودني إلى كنوز مثل مغارة علي بابا. أقولها بصراحة، وقد كتبت ذلك. قام لي مقام سارتر ومقام ماركس ومقام فرويد، بالتناوب...
معلم فكر
معلم فكر، أستاذ فكر. هذه البنية النفسية اعترفت بها منذ البداية، ضمن هذا الحديث، ولكن كالعادة أكتشف دوما، أنني أمثلت هذا الأب المثالي في نفسي أكثر مما ينبغي. عندما ظهر كتاب الجابري تكوين العقل العربي، كنت أول من قرأته، لأنني أخذته من المطبعة مباشرة، وقرأته وأنا في الطائرة خلال هجرتي إلى فرنسا، وفي ساعة قلق نفسي كما هي العادة خلال كل هجرة بعد أن غادرت بيروت لأقيم في فرنسا بصورة نهائية. وكتبت عنه دراسة، قال الجابري بنفسه أنها أفضل مما كتب عنه، يوم كنا على وفاق، وقلت فيها إن هذا الكتاب، ليس فقط كتابا يثقف، بل هو كتاب يغير. فمن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه هو نفسه كما كان قبل. إلى هذه الدرجة أشدت به. وبالفعل اعترف انه غيرني، يعني أجبرني على الدخول في معمعمة التراث، على الغوص والسباحة في بركة التراث العميقة والعريضة معا. هنا، شاءت عدة صدف أن أكتشف، ان هذه القراءة التي يقدمها للتراث، هي أيضا غير مطابقة لموضوعها. أي أنها، تصدر عن وعي كاذب، حتى وإن كان هذا الوعي يدعي انه ابستيمولوجيا، منهجا جديدا في معرفة المعرفة بالذات. أول صدامي معه كان مع lt;lt;اخوان الصفاgt;gt;، كنت مدعوا لمحاضرة في إحدى دول الخليج، واشتريت هناك مجموعة رسائل اخوان الصفا، وفي رأسي بالضبط رقم الصفحة ورقم الرسالة التي استشهد فيها الجابري بأن هؤلاء ضد الفلسفة وضد المنطق، فلم أجدها. ولكن وأنا في طريق العودة، وفي الطائرة والرحلة تستغرق 10 ساعات قرأت بضع عشرة رسالة من الرسائل، ففوجئت أن هؤلاء الذي صورهم أعداء الفلسفة، وأعداء المنطق، وأنهم يمثلون العرفان الإسماعيلي، الخ، فوجئت أنهم يفتتحون رسائلهم بالدعوة لقارئهم بأن لا يبدأ بقراءتهم قبل أن يقرأ المنطق وفلسفة أرسطو. ويقولون ويضيفون، انك يا lt;lt;أخانا في الروحgt;gt; هكذا كانوا يسمون القارئ اذا كنت لا تملك وسائل لتقرأ منطق أرسطو فها نحن نيسره لك، ونختصره لك، في سبع رسائل، بعدد كتب المنطق، فيلخصون برسالة كاملة كل كتاب من كتب المنطق لأرسطو. ثم بعد ذلك يقولون، أنه الآن يا أخانا في الروح وانك انتهيت من قراءة أرسطو وأصبحت تملك المفاتيح الضرورية للمعرفة وللعلم، فتعال إلى رسائلنا. فدهشت، كيف يصورهم بأنهم أعداء المنطق، وبأنهم طالبوا باستغناء الإنسان عن المنطق، ثم أجد هذه الإشادة الهائلة بالمنطق وبالدعوة قبل ابن رشد بقرنين إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة، بين الحكمة والشريعة. كل منطقهم بالرسائل يقوم على ان الشريعة الإسلامية قد مرضت ولابد للفلسفة اليونانية من ان تطهرها من أمراضها، فإذا اجتمعت الشريعة والفلسفة من جديد أمكن للإسلام من جديد أن يتحرك وأن تدب فيه الحياة التي تقي من الموات. ثم تابعت قراءة الرسائل، إلى النهاية وأنا مدهوش بالكثير من أفكارهم إلى أن وقعت على النص الذي كان الجابري قد استشهد به، ليقول إنهم ضد الفلسفة والمنطق. فإذا بي أمام العجب العجاب. كان عنوان الرسالة الفرعي، lt;lt;في ان المنطق منطقانgt;gt;، واعلم يا أخانا في الروح، ان المنطق منطقان، هناك المنطق الفلسفي وقد كنا حدثناك عنه في مطلع رسائلنا، وهنالك منطق لفظي، وهو الذي خص به الله الإنسان من حيث انه جعله حيوانا ناطقا مبينا بالكلام، واعلم ان هذا المنطق اللفظي الذي هو وسيلة تخاطب بين الشعوب ووسيلة التلاقي بين الأمم ولكن على ضرورته القصوى للبشر لأنه بدونه يكف الإنسان على أن يكون إنسانا، يستطيع بعض النفوس المرهفة أن يستغني عن المنطق فتتفاهم بلا منطق فليس بها حاجة إلى المنطق، أي تتفاهم بالروح، تتفاهم بالأعين، والتفاهم بالتواصل الوجداني، فاستغل هذا الشاهد البسيط والجميل معا، ليفصله عن سياقه وليقول إن هؤلاء ضد المنطق. طبعا عندما يأتي القارئ نص من رسالة مقطوع من سياقه، يقول واعلم يا أخي ان هناك من النفوس الشفافة من تستغني به عن المنطق، منطق أرسطو فلا بد أن يفهم من ذلك أنهم
يميلون أصلا الى منطق اللفظ. عندما اكتشفت العكس عبر ما أسميه عملية البحث البوليسي عن الأدلة وعن الأصول. كانت صدمة لي.
قبل أن نخوض هذا السجال الذي استغرق 5 مجلدات، وعلى ما أظن ألاف الصفحات، مع الجابري افترض ان نقاش الجابري للتراث لم يكن فقط تأريخا لهذا التراث وإنما سعي نحو إشكالية تبحث أو تحاول ان تجد المفتاح في التراث والعلة في التراث. هل ابتعدت أنت عن هذه الإشكالية؟ أي البحث عن المفتاح في التراث والعلة فيه؟ هناك من ناقشك خلال محاضرتك قائلين لك اننا لا نستطيع ان نبحث عن بذور العلمانية في التراث وبالتالي لا نستطيع أن نبحث في التراث عن المفتاح ولا عن العلة الأصلية؟
قد لا أجيب عن هذا السؤال بشكل مباشر. في كتابي الأخير، الجزء الرابع الذي صدر بعنوان lt;lt;العقل المستقيل في الإسلامgt;gt;، هناك مواجهة على صعيد إشكالية الذات، ماذا أراد الجابري أن يفعل في مشروع تدوين العقل العربي. لجأ إلى ما أسميه بنظرية حصان طروادة، عندما درس التاريخ الإسلامي، تاريخ العقل العربي الإسلامي، وهو يستعمل كلمة العقل العربي ويستبعد كلمة الإسلامي تجنبا للحرج في أمور كثيرة مع انه ليس عقلا عربيا بل هو عقل عربي إسلامي، مكتوب باللغة العربية في ظل سيادة الهيمنة الابستمية الدينية الإسلامية. يقول ان هناك واقعة أساسية في هذا العصر وهي انتقاله من العصر الذهبي الذي مثلته الحضارة في القرن الثاني والثالث إلى عصر الانحطاط في السابع والثامن والتاسع. ما سبب انحطاط هذا العقل العربي والإسلامي؟ يرجعه الجابري إلى غزوة خارجية تسللت إلى داخل الساحة الثقافية العربية الإسلامية وغزتها ودمرتها من الداخل ودمرت العقلانية العربية الإسلامية من داخلها. هذا ما أسميه نظرية طروادة تماما، لماذا؟ لأنه قال إن هناك الهرمسية والغنوصية والعرفان والعرفات الكلدانية والأفلوطونية المحدثة بصيغة مشرقية كلها تسللت إلينا من مصادر الغنوص والهرمسية في حران والإسكندرية وجاءت عن طريق الترجمة وغزتنا من الداخل فأدت إلى استقالة العقل في الإسلام. نظرية حصان طروادة هذه أرفضها، لأنها بذلك تجد مشجبا تعلق عليه انحطاط العقل العربي الإسلامي أو ما أفضل أن أقول انغلاقه على ذاته ودخوله في عصر الانحطاط الطويل المديد، لأني أعتقد ان هذا الانحطاط أو هذه الغلقة الإيديولوجية الكبيرة للعقل العربي الإسلامي التي نسميها تاريخيا عصر الانحطاط ناتجة عن آليات ذاتية فعلت من داخل العقل العربي الإسلامي نفسه وليس من خارجه وبالتالي لا نستطيع أن نحمل ونضع مسؤولية انحطاطنا على الآخر، سواء سمينا هذا الآخر الغنوص أو الهرمسية أو العرفان الشرقي أو ما نسميه اليوم الغرب أو إسرائيل أو ما شئت من أسماء. أعتقد ان عمليات التقدم وعمليات الانحطاط في أي حضارة تتم من داخل هذه الحضارة بالذات، ولا يجب ان لا نبحث عن مشاجب خارجية لاستقالة العقل في أي حضارة كان بما فيها الحضارة العربية الإسلامية. من هنا في الأصل عنوان كتابي lt;lt;العقل المستقيل في الإسلامgt;gt;. ما الذي حدث بالنسبة إليّ؟ الفارق الكبير بين عصر النهضة، العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية وبين عصر أفولها وانحطاطها، بالنسبة إلي هو أن الحضارة العربية الإسلامية بتكوينها ولدت حضارة مركزية وهذا التمييز أستعيره من شبنغلر في كتابه lt;lt;أفول الحضارةgt;gt;، لقد ميز بين نوعين من الحضارات، الحضارة الدائرية أو ما أسميه الحضارة المركزية والحضارة الطردية او السهمية التي تندفع كالسهم إلى الامام وتتجاوز نفسها باستمرار. ولاحظ شبنغلر ان كل الحضارات السابقة كانت حضارات تدور حول نفسها حول نقطة مركزية واحدة مهما كان اسم هذه النقطة. سواء أكانت فلسفة أفلاطون أو الوحي المسيحي او الوحي الاسلامي، الخ. في حين ان الحضارة الغربية التي كانت في الأصول حضارة دائرية خرقت منطق الدائرة واندفعت الى الامام كالسهم، فهي تتجاوز نفسها باستمرار الى حد تعجز معها الحضارات الأخرى، حتى لو أرادت تقليدها عن ان تدركها لأنها مندفعة باستمرار الى الامام. بالنسبة إلي، انطلاقا من هذا التصور الشبنغلري رأيت بدوري أن الحضارة العربية الاسلامية بالفعل هي حضارة مركزية انطلقت، من نقطة الأساس المركزية الواضحة التي مثلها الوحي القرآني، انطلاقا من نقطة المركز هذه اتسعت دائرة الحضارة العربية الاسلامية، ليس فقط عن طريق الفتوح العسكرية التي جعلتها امبراطورية عسكرية كبيرة في خلال خمسين سنة من الزمن،بدءا من واقعة الوحي وانما أيضا بدأت العوامل الثقافية تتكون حول هذه النواة المركزية. ظهر قبل كل شيء علم التفسير، ودائرة علم اللغة، ودائرة الفقه، واحكام الشريعة...
تقلص الدوائر
والدائرة الدينية
ابدا، دائرة اللغة لم تكن دينية، ثم جاء علم الكلام، ثم دائرة الفلسفة، ولكنها مؤسسة على توفيقية، بمعنى ما أنا أقول إنها حضارة مركزية، لا انكر دور المركز، بل هي دوائر حول المركز، غير قابلة للانفصال عنه، هذه هي طبيعة هذه الحضارة بالذات، لكن أنا أبحث لماذا انحدرت، لماذا انغلقت، لماذا آلت إلى انحطاط، هذا هو السؤال ولا أناقش في طبيعتها، هي بالفعل حضارة مركزية، حول نص ديني، حتى النص الديني لم يكن نصا، إذ قبل أن يكون حول المركز، كان وحيا كان خطابا وأميز ها هنا بين الخطاب القرآني وبين النص القرآني، تحويل الخطاب إلى نص استغرق أيضا زمنا. يعني الواقعة الأساسية هي الوحي، كان التنزيل شفهيا ثم تحول إلى نص كتابي، هذه أول دائرة حقيقية، تحويل القرآن إلى مصحف، او ما أسميه مصحفة القرآن، هذه واقعة أساسية في هذه الحضارة المركزية. أول دائرة هي مصحفة القرآن، تكوين المصحف وتأسيسه وتكريسه، وهذه عملية استغرقت وقتا طويلا، أكثر من100 سنة، قبل أن يستقر المصحف على شكله الراهن. ثم بعد المصحف كما قلت كانت هناك دوائر عدة، دائرة التفسير ، دائرة علم الكلام، دائرة الحديث، المنسوب أو الموضوع على لسان الرسول ثم دائرة تأسيس lt;lt;لاهوتgt;gt; اسلامي، في مواجهة اللاهوت اليهودي والمسيحي، ثم دائرة الفلسفة، ثم دائرة العلوم، الكيمياء، والميكانيك والطب والرياضيات الخ... كل هذه العلوم جاءت في الأساس كعلم للفرائض والمواريث... حتى علم الرياضيات كانت نقطة انطلاقه دينية، ولكنه شكل دائرة كبيرة ومستقلة، علم الفلك. على كل، الذي حدث، كانت هذه الدوائر حول دائرة المركز تتسع وتتسع الى ان بلغت أوجها في القرن الرابع للهجرة الذي سمي القرن الذهبي للحضارة العربية الاسلامية. ثم بدأت المسيرة المعاكسة، بدأت الدوائر تتقلص، أو لنقل تُقلص الدوائر بمعنى، أول شيء كفروا دائرة الفلسفة جاء الغزالي وكفر الفلاسفة وصدرت فتاوى بالصلاح بتكفير المنطق، وتابعه ابن تيمية، أغلقت دائرة الفلسفة، وهي أكبر دائرة عقلية في الحضارة المركزية الإسلامية، ثم أغلقت دائرة علم الكلام، حتى اللاهوت الإسلامي، المعتزلي أولا، ثم الأشعري، كفر واضطهد المعتزلة، ثم اضطهد الأشاعرة وحرم الكلام، وصدرت فتاوى تقول من تمنطق تزندق. ثم قالوا من تكلم تزندق، حتى اللاهوت الإسلامي أصبح مكروها، ثم قلصت حركة العلوم، وقالوا نحن حضارة دين ولسنا بحاجة للعلم. وحتى في القرن السابع بدأت تظهر، كتب الطب النبوي، وقالوا نحن لسنا بحاجة إلى طب أبقراط وجالينوس، يكفينا طب النبي وألفت مجموعة من الأحاديث تنسب أعاجيب في الطب إلى الرسول، وكرست فيه كتب كبيرة لا تزال متداولة حتى اليوم. هذا التقليص لدوائر الحضارة الإسلامية وردها إلى دائرتين ضيقتين، دائرة النص مع توسيع دائرة الحديث والفقه وإغلاق سائر الدوائر الأخرى، هو ما أدخل الحضارة العربية والإسلامية في عصر انغلاق وانحطاط، إذا آلية الانحطاط في الحضارة العربية والإسلامية، آلية داخلية، من مبدأ توسيع الدوائر إلى منطق تضييقها وإغلاقها. واليوم الأصولية الدينية، والأصولية السياسية لا تتكلم إلا عن نقطة المركز الأولى وتريد ان تلغي كل شيء وأن تبقى عالقة في مركز واحد معتبرة انه من الممكن ان تحل كل شيء انطلاقا من هذه النقطة.
لو أمكن وصف مجلداتك عن الجابري لقلت بعبارة شبه بوليسية، انه استقصاء وتحر وفحص الأدلة للوصول إذا جاز التعبير للقبض على الجرم. لقد أعادتني قادرا على إعادة قراءة الفلسفة العربية بمتعة، وبالتالي هذا جانب من جوانب مجلداتك، وهو جانب أساسي، انك عن طريق الجابري تريد قراءة التراث وتتذرع بالجابري لتطرح قراءتك الخاصة بالتراث ولكن قبل ان ننظر في هذا الجانب، ثمة جانب آخر، هو نقاش الجابري في تحريه واستقصائه والقبض على حقيقة الأمور، هذا الجانب يستغرق مئات الصفحات في كتاباتك، وسبق ان قلت وأثبت في كتبك، ان احد مطاعم الجابري هي ركاكة وفساد مراجعه واخطائه المعرفية وادعاءاته الكاذبة، واحيانا تزييفاته، الا تظن انك أنفقت وقتا طويلا، في عملية تكاد تكون غير مجزية؟
بالفعل قد تبدو غير مجزية بمعنى اني شبهت نفسي بالمهندس الخبير بتفكيك حقل ألغام، الجابري يزرع اللغم بثوان، وتحتاج أنت لتفكيكه لساعات، هذا هو منطق تفكيك الألغام. ولكن لا تستطيع أن تمشي على هذه الأرض الملغمة، إلا إذا مهدتها من جديد. من اجل إعادة البناء. هذه عملية أساسية. ولكن الحقيقة لست استهدف الجابري وحده، أنا اعتقد وأصرح بذلك علنا، ان الانتلجنسيا العربية المعاصرة، في شطر عريض منها، ولا أقول كلها طبعا، في شطر أساسي منها، ليست انتلجنسيا، بل هي كما كان يقول ماركس عن البروليتاريا، ان هناك بروليتاريا رثة. وأقول إن الانتلجنسيا العربية بتيارها الغالب، مع الأسف، هي انتلجنسيا رثة. وأنا أقول إنني جزء من هذه الانتلجنسيا الرثة ولا أبرئ نفسي لأن انتلجنسيا رثة هي وحدها التي تستطيع أن تنصب الجابري أستاذ تفكير لها، وقد نصبته بنفسي أستاذ تفكير لي كما اعترفت في البداية، فأنا انتمي إليها. اذا هو فعل تحرر حتى من الآن فصاعدا، في تاريخ الثقافة العربية، كي لا يتكرر هذا الجرم، تزوير الشواهد، الرجوع إلى مراجع ثانوية، إصدار الأحكام، فصل الشواهد عن سياقاتها، اصدار أحكام من دون الاستناد الى شواهد حقيقية، اعتماد اراء مستشرقين ومن ثم اخفاء اسماء المستشرقين وابدال اطروحاتهم وكأنها اطروحاته، كل هذه الألاعيب التي بني عليها الجابري أطروحته، هي جزء من الآليات التي تشتغل بها الانتلجنسيا الرثة. وأنا إذ أحاكم الجابري اقول بصراحة انني أحاكم نفسي، او احاكم على الأقل شطرا كبيرا من ماضيّ، لأنني لو لم اكن أنتمي إلى هذه الانتلجنسيا، لما كانت مرت عليّ هذه الأستذة الكبيرة التي اعترفت بها للجابري في اول كتاباتي عنه. اذا هي عملية أساسية، لاعادة بناء الوعي ولتصفية حساب مع الذات، وأقول للجابري أكثر من مرة، نعم أشكره لأنه أجبرني على اعادة بناء ثقافتي.
اذا استعدنا ما حاولت أنت أن تطبقه على المثقفين العرب،
وعلى نفسي،
وعلى نفسك. لو قلنا ان في هذا التقصي والتحري، دافعا هوسيا، مع العلم ان متعة القراءة تكمن هنا في هذا الجانب شبه الفني، لو عدنا إلى هذا الجانب، لسألت نفسي، الم تكن تعيد عن وعي او من دون وعي تدافع عن التراث ضد الجابري، بكشفك تزييفات الجابري للتراث وقراءته...
غير المطابقة،
اذا كانت هناك فضيحة، فهي فضيحة ضحالة الجابري، أي ان مفكرا كبيرا لا يقرأ، هذا ببساطة ما تقوله في مجلدك الأول، أي ليس هناك تزييف فقط، بل ثمة جهل. على كل، تبدو وكأنك تدافع عن التراث، ضد الجابري، ألا يعيد هذا على نحو ما، لا الاعتبار للتراث فحسب، بل تنصيبه مجددا، في موقع الأب؟
نعم ولا، كما قلت لك، لا يشتغل الباحث، مهما كان موضوعيا، ببراءة موضوعية مطلقة. كل باحث يصدر عن بنية نفسية محددة، ولكن أنا لا أعتقد مفهوم الدفاع عن التراث هو موضوع معرفي أو ابستيمولوجي حقيقي. الدفاع موقف وحتى الهجوم موقف ايديولوجي، ما يحتاجه التراث إلى موقف معرفي فقط، أن نقرأ تراثنا بعين معرفية، لا نؤدلجه، لا نهاجمه ولا ندافع عنه، ان نقرأه كما نقرأ الفلك. بالطبع لا نستطيع أن نتبرأ من عواطفنا، لا نستطيع أن نكون موضوعيين بموضوعية تامة كما في علم الرياضيات، أو في علم الكيمياء. باعتبار التراث علما وعلما إنسانيا، نرى أن الانسان يدخل إليه مع وجدانه لا يستطيع أن يأتيه بموضوعية مطلقة، لنقر بهذه الحقيقة، فأنت دائما في كبح انحيازات مسبقة، لهذا الجانب أو ذاك من التراث. لا أستطيع أن أنكر ذلك، ولكن أعود إلى فكرتك، عن قصة الجهد البوليسي في أبحاثي، ذات يوم قرأت كتابا لكاتب مغربي من أصل يهودي مسعود الصباح، عن أسرار سفر الخروج في التوراة، قرأته وفيه كشف هائل يظهر الأسس الفرعونية للديانة اليهودية، وبأن لا وجود لليهود، وانما اليهودية هي ديانة اخناتون. وقد بنى كتابه على اللغة القبطية القديمة وعلى كم هائل من المعلومات التاريخية، وهو رجل يهودي كما قلت لك. قرأته وقرأته زوجتي أيضا وهي روائية، وسحرت به، وقالت لي قرأته وكأنه رواية بوليسية. اتصلت به لأطلب اذنا بترجمته فقيل لي انه مريض ومصاب بالسرطان، عاد واتصل بي، من المستشفى، ليقول لي انه جد سعيد وقد تكون الترجمة خاتمة حياته ولكن قبل ذلك أحب رأيك بهذا الكتاب، قلت له سأنقل لك تعبير زوجتي بأن هذا الكتاب قرأناه وكأنه رواية بوليسية، ثم استدركت لعلي جرحته بهذا التعبير فأجابني بتهليل هذا وصف دقيق لكتابي، قلت له أنا مفاجأ، لقد تورطت بالكلمة، قال لي ما الرواية البوليسية، قلت له هي دوما البحث عن قاتل، قال، لا، هي البحث عن الحقيقة. وأنا كتابي بحث عن الحقيقة، وأنا أيضا مهووس بالبحث عن الحقيقة. وان كلفني ذلك جهدا وكلف قارئي معي جهدا.












التعليقات