بانتظار معرفة ما دار في كواليس لقاء القمة الأخير بين شارون والرئيس الفلسطيني وتقويم أسباب الفشل المتحقق، وأيضاً معرفة "خفايا" لقاءات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مع كبار المسؤولين في المنطقة، يلحظ المراقب أن تداعيات زيارة السيدة رايس أثارت أكثر من زوبعة سياسية هنا وهناك وهنالك بقوة فعل تصريحاتها الحادة المباشرة (طبعاً باستثناء تصريحاتها تجاه إسرائيل التي جاءت ناعمة وربع صريحة!!!) مقرونة بتجاهل المقارفات الإسرائيلية التي استباحت ولا تزال الأرض الفلسطينية على الرغم من كل "تفاهمات" التهدئة! وقد اتضح فعلاً أن اللقاءات الفلسطينية/الأميركية/الإسرائيلية/المصرية أسهمت في التمهيد لقمة عباس/شارون وفي تحديد مسارها (لكن دون ضمان نجاحها) وسط أجواء من التصعيد المتبادل الذي يهدد "التهدئة" المعمول بها! ويبقى السؤال عما إذا كانت الدكتورة رايس ستطوق نتائج فشل قمة عباس/شارون وتنجح ـ عموماً ـ حيث فشل غيرها. وفي هذا السياق، من المهم استذكار الكلمة التي ألقتها رايس أمام مؤتمر منظمة الإيباك يوم 23 أيار الفائت، حيث كررت رؤية الرئيس بوش بإقامة "دولتين ديموقراطيتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً الى جنب في أمن وسلام". وفي الكلمة نفسها، امتدحت الرئيس عباس ووصفته بأنه "الرئيس الذي لفظ الإرهاب كسبيل الى تحقيق السلام".
وفي اجتماعها مع عباس، أعلنت رايس أن تنسيق "الانسحاب" من القطاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين "أمر لا غنى عنه مطلقاً وأنه يشكل فرصة سانحة لاستعادة عملية السلام في المنطقة وفقاً لخريطة الطريق المجمدة". وأضافت أن بلادها "ترغب في التأكد من قيام إسرائيل بتنسيق انسحابها من غزة مع الفلسطينيين"، وأنها "لا تريد أن تقوم إسرائيل بفرض سياسة الأمر الواقع" وذلك في إشارة الى خطط إسرائيل إنشاء "مستوطنات" جديدة بالضفة الغربية.
على صعيد مختلف، طالبت رايس الفلسطينيين الالتزام بالتهدئة مع إسرائيل متجاهلة أن الأخيرة تخرق "الهدنة" يومياً بأعمال الخطف والاغتيال التي تقوم بها داخل المناطق الفلسطينية. كذلك، وصفت رايس حركة حماس "بالإرهابية" مع استمرار الموقف الرافض إجراء حوارات معها، على عكس الموقف الأوروبي الذي تكشف عن إجراء حوارات "تقنية" مع شخصيات حمساوية. ومن جهتها، دانت حماس تصريحات رايس وقالت "إن الولايات المتحدة تواصل وصف حماس بأنها إرهابية فيما ستشارك هذه الحركة في الانتخابات التشريعية بعد أن فازت في الانتخابات البلدية". كما أعلنت أن جولة رايس "تهدف مساعدة شارون لتحقيق مشاريعه". ومن جانبه، أكد الرئيس عباس التزام الفلسطينيين بالتهدئة ورغبة السلطة بالتنسيق الكامل بشأن انسحاب إسرائيل المزمع من القطاع. وفي اجتماعها مع الجنرال موفاز وزير "الدفاع" الإسرائيلي، حثت رايس إسرائيل على "تسهيل الحياة اليومية للفلسطينيين وإطلاق مزيد من الأسرى الفلسطينيين لتحسين أجواء الثقة بين الجانبيين". كلام جميل، لكن كيف هي الوقائع والمواقف على الأرض.
من جانبها إسرائيل ماضية في بناء مستعمرات/ "مستوطنات" جديدة وتوسيع القائم منها خاصة حول القدس. كما أنها ماضية في استهداف كوادر المقاومة مما يهدد الهدنة الهشة القائمة بين الطرفين. وأيضاً فإن بناء "الجدار"، على الرغم من احتجاجات الفلسطينيين وبعض اليهود وعدد متزايد من الأجانب، قد فاقم الأمور. كذلك، تحاول إسرائيل التخلص من تفاهمات شرم الشيخ، فالانسحاب الإسرائيلي من المدن الفلسطينية سلحفائي، والخروقات للتهدئة مستمرة مما يهددها بالانهيار، كذلك الطعن في قدرة الرئيس عباس لأن يكون "شريكاً" لإسرائيل في التسوية. أيضاً، تجمد إطلاق سراح الفلسطينيين بعد تحرير بضع مئات منهم من الذين قضوا ثلاثة أرباع مدة محكوميتهم، ناهيك عن وجود عشرات الحواجز الإسرائيلية المعرقلة لتنقل الفلسطينيين داخل وبين مدنهم، وكلها حقائق تهدد مصداقية الرئيس عباس وبرنامجه.
***
ان زيارة رايس ـ من منظور تحليلات مختلفة ـ هدفت الى محاولة إحداث اختراق سلمي بالشرق الأوسط يعطي الإدارة الأميركية زخماً لتجاوز أزمتها المتفاقمة في العراق، مع ارتفاع أصوات بالحزب الجمهوري لوضع جدول زمني للانسحاب من العراق بعد تزايد الخسائر البشرية الأميركية.
وفي كل ا لأحوال، وعلى الرغم من أن بعض الضغوط الأميركية على النظم العربية المتكلسة والمناهضة للدمقرطة ضغوط مرحب بها، فإن المفارقة تسطع عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فكل الكلام المعسول الذي سمعه الرئيس عباس من الرئيس جورج بوش وغيره في قمة واشنطن سيبقى مجرد كلام ما لم يقرن بالأعمال، حيث إن جميع الإدارات الأميركية عارضت بناء "المستوطنات" الإسرائيلية منذ اليوم الأول لانتهاء حرب 1967. فهل تنجح الإدارة الأميركية الحالية، ورايس تحديداً، في إحداث الاختراق المطلوب على صعيد السلام في الشرق الأوسط؟ الإجابة برسم المستقبل.
التعليقات