الحياة: الأربعاء: 06 . 07 . 2005

المدير العام السابق للامن العام اللبناني اللواء الركن جميل السيد لعب في لبنان دوراً يشبه الدور الذي لعبه روبرت جولياني في مدينة نيويورك. الثاني ضبط نيويورك على نحو يعد سابقة في تاريخ المدن المكتظة، وجميل السيد ضبط مديرية الامن العام وابعدها عن الفساد والمحسوبية. هكذا يصفه اصدقاؤه، اما خصومه فيلقبونه بـ «سي السيد»، ويقولون انه كان يحكم لبنان في الظل، وأنه مارس على مدى سنوات عمله دوراً سياسياً يتجاوز احياناً الدور الذي يلعبه رئيس الوزراء، بل يتدخل في اختيار رئيس الجمهورية، وأنه كان خلال تلك الفترة يلعب بالبيضة والحجر ويخيف السياسيين قبل الصحافيين. لكن، رغم اهمية موقع السيد في الحياة السياسية اللبنانية، بقي اسمه والحديث عن دوره موضوعاً للنقاشات الهامسة، وبعيداً عن الاضواء، الى أن وقع الانفجار الذي غيب رفيق الحريري وكسر حاجز الخوف والصمت، فصار جميل السيد في نظر المعارضة والشارع الغاضب تجسيداً حياً للمؤامرة التي عاشها لبنان خلال ثلاثين سنة، واصبح المتهم الاول لكل الانفجارات والاغتيالات التي جرت حتى اليوم.

بعد تصاعد الاتهامات قرر جميل السيد الانسحاب من الساحة، ربما اعتقاداً منه بأن الابتعاد يوقف الاتهامات الجاهزة ضده، لكن الطريقة التي خرج بها فوتت هذا الاحتمال، فهو عقد مؤتمراً صحافيا يوم استقالته وتحدث بغضب، خاطب اللبنانيين بطريقة المستفز، حتى لا اقول الخائف، فأعتبر خصومه اللغة التي تحدث بها دليلاً جديداً على تورطه بما جرى، لأنه تصرف على طريقة «كاد المريب ان يقول خذوني»، وعوضاً عن إبعاد اسمه ودوره من التعاطي اليومي في الشارع وعلى اعمدة الصحف، ووقف سيل الاتهامات ضده، حدث العكس ولم يمض وقت طويل ليكتشف ضابط السياسية اللبنانية انه اخطأ، وانه مارس دوراً مهماً في الظل، وخرج بطريقة تشكك حتى بالقدرات والمواهب التي أهلته للوصول الى هذه المكانة، فقرر ان يتكلم، وكان واضحاً انه درس الخطوة جيداً، وان الادلاء بحديث بهذا الشمول ليس مجرد رغبة في الظهور، فأختار جريدة «الحياة». وكأنه بهذا الاختيار اراد ان يوجه رسالة بليغة للصحافة اللبنانية، وأن يعترض على دور معظمها في الازمة، كأن اراد ان يتهمها بعدم الحياد وغياب الموضوعية، لكن الاهم ان جميل السيد في حواره مع الزميل غسان شربل اثبت انه يمتلك قدرة على التأثير في مستمعيه، وهي قدرة تنازل عنها حال خروجه من المنصب، فضلاً عن الخلاصات السياسية التي قدمها، والتي من أهمها تعريفه لاتفاق الطائف بأنه «ليس اتفاقاً لبناء الدولة بل اتفاق على تقاسمها تحت راية انهاء الحرب». لقد تحدث السيد الى «الحياة» على طريقة السياسيين، وكان بارعاً في صياغة وجهة نظره كأنه محام يترافع عن اللواء الركن جميل السيد.

لاشك في ان جميل السيد نجح في حواره المطول مع «الحياة» في ازالة الكثير من الشكوك والتهم التي دارت حوله، وفي اضعف الايمان استطاع ان يحيد نصف الذين اتهموه، فضلاً عن انه قدم صورة جديدة عن العسكريين ورجال الامن، فكانت لغته مزيجاً من حذر رجال المخابرات وحذاقة السياسيين ودقة رجال القانون، كما استطاع ان يقدم ايحاءات ذكية خلال سرده لما جرى اذ قال بوضوح انه غير معني بمسرح الجريمة ولا علاقة له بالأمن بمعناه المباشر صحيح انه لم يقل صراحة ان دوره كان سياسياً وانه غير محسوب على الاجهزة الامنية، لكن السرد الذي قدمه يفضي الى ذلك.

هل اراد جميل السيد من خلال الحلقات التي نشرت حتى الآن أن يقلل من اهمية الدور الامني الذي كان يلعبه ويتهم من خلاله، ويعترف بالدور السياسي الذي كان ربما ينكره؟ الاكيد ان جميل السيد قرر مواجهة المعركة ودخولها من باب السياسة، وهو يدرك ان قائمة المتهمين سياسياً طويلة، وتطال معظم اقطاب المعارضة اليوم. لكن هل يسمح له خصومه بتحقيق هذه الرغبة على افتراض أنها صحيحة؟