في مقدم القيم الأخلاقية، لا بل الحضارية والإنسانية، التي تقوم عليها الثقافة الغربية، احترام ما يسمى حقوق الإنسان. وعلى رأس هذه القيم حق الإنسان في الحياة، ويليه حقه في حياة كريمة. وهنا تتواتر قيم الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بأوسع معانيها.
هكذا تشكل حقوق الإنسان سمة مميزة للمضمون الأخلاقي للحضارة الغربية. ولكن أين هي المجتمعات الغربية من احترام حقوق الإنسان هذه في واقع الحال؟
في أكثر المجتمعات الغربية بات حكم الإعدام في حق القتلة المجرمين محظراً. لا بل بات حظر حكم الإعدام عملياً من شروط قبول أية دولة في عضوية الاتحاد الأوروبي. وأنا شخصياً من الذين يرفضون مبدأ الإعدام فلم أوقع أي مرسوم بتنفيذ حكم الإعدام بأي من المحكومين طوال وجودي على رأس الحكومة اللبنانية. ومن الأسباب التي تحدوني إلى تبني هذا الموقف أن الحياة هبة من الله تعالى ولا يجوز أن يستردها إلا الله. ومنها أن الإعدام ليس حتى زاجراً للمرتكب. فأقسى العقوبات هي الندم، وإعدام القاتل يعفيه عملياً من هذه العقوبة. ثم إن ثمة احتمالاً لأن يبنى حكم الإعدام على حيثيات خاطئة، ولا يعود ثمة مجال لتصحيح الخطأ إذا ما نُفذ الحكم. وأخيراً، إذا كنا ندين القتل فإن الإعدام يجعل من المسؤول في واقع الحال بمثابة القاتل. إلى كل ذلك فإن تنفيذ أحكام الإعدام في لبنان يبقى انتقائياً: هناك عشرات من المحكومين، ولكن الإعدام لا يُنفذ إلا في حق قلة منهم
على غير ما قاعدة محددة. صحيح أن الإسلام أجاز قتل القاتل، ولكنه أيضاً أوصى بالعفو باعتباره من الفضائل.
حظر الإعدام هو من باب التقديس لحياة الفرد وهذا في محله. ولكن هل المجتمعات الغربية حقاً تلتزم هذا المبدأ وإلى أي مدى؟ يبدو لنا أن هذا الالتزام يقف عند حدود المصالح، علماً بأن لفظة المصالح تحتمل معاني مطاطة تكاد تجعل من الالتزام مدعاة للسخرية. إلى أي مدى يحترم الجيش الأميركي في العراق حق المواطن العراقي في الحياة، ولا نقول الحياة الكريمة؟ النشرات اليومية الصادرة عن القيادة العسكرية الأميركية في العراق تبشّرنا كل يوم بعدد القتلى من العراقيين الذين يسقطون بالنيران الأميركية مع التبرير بنعت هؤلاء بالمتمردين. وعند التدقيق يُكتشف أن lt;lt;المتمردينgt;gt; من الأطفال والنساء والشيوخ والعزل. ويبقى السؤال مطروحاً من حيث المبدأ: هل التمرد على الاحتلال يبرر الإعدام؟ عجباً كيف تُحرّم تلك المجتمعات إعدام مجرم قاتل، من باب تقديس حياة الإنسان، ويُباح قتل من يُسمى متمرداً على الاحتلال!
أليس هذا ضرباً من ضروب الإعدام؟ إنه في أكثر الحالات إعدام لأبرياء وليس لمجرمين. أليس هذا ما يحصل عملياً في شن حروب إبادة ماحقة على مناطق آهلة، كما وقع فعلياً في تدمير القوات الأميركية لمناطق برمتها في بغداد والفلوجة ومدن أخرى؟ أليس هذا ما يحصل عندما تستخدم قوات الدولة العظمى المدافع الثقيلة والصواريخ وتشن الغارات الجوية وتطلق النار بغزارة لتفريق تظاهرة سلمية؟ هذا النعي شبه اليومي للأبرياء، أين هو من القيم الإنسانية أو الحضارية التي ترفع المجتمعات الغربية شعاراتها؟
هذا ناهيك بما ترتكب إسرائيل من جرائم يومية في حق الإنسانية على أرض فلسطين العربية التي تحتلها. وهي تبرّر جرائمها هذه بمقولة الدفاع عن النفس، والغريب أن هذه المقولة تلقى قبولاً واسعاً في المجتمع الأميركي وسائر المجتمعات الغربية التي تدعم الكيان الصهيوني حتى في عدوانه على شعب منكوب. ماذا حلّ بأول حق من حقوق الإنسان على أرضه، وهو حقه في الحياة؟ إن عدد القتلى الذين يسقطون بنيران المعتدين الصهاينة أضحى مجرد إحصاء يومي، لا أكثر ولا أقل. الإنسان أضحى رقماً.
كلمة السر في ارتكاب كل المعاصي على صعيد انتهاك حقوق الإنسان في العصر الحديث هي محاربة الإرهاب. نحن بالطبع نستنكر كل أعمال الإرهاب ونشجبها وندعو إلى مكافحتها بكل الوسائل المشروعة، والإرهاب في مفهومنا هو الاعتداء على أبرياء، على مدنيين عزل، في عمليات ذات استهدافات سياسية. وهذا التعريف ينطبق على المجرمين، أفراداً كانوا أم جماعات، كما ينطبق على دول وقوى دولية تمارس القتل لأهداف سياسية. بهذا المعنى إسرائيل تمارس الإرهاب بأبشع صوره في فلسطين وكانت مارسته في الجوار العربي بما فيه لبنان. وكذلك أميركا، فهي تمارس مثل هذا الإرهاب في أفغانستان والعراق وتمارسه، كما سواها من دول الغرب، بتغطية الاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين وسائر العرب على المستوى الدولي ولا سيما داخل مؤسسات الشرعية الدولية. لا بل إن الدولة العظمى، ومعها دول كبرى، هي ضمناً شريك فعلي في الإرهاب الذي تمارسه دول ضالعة في أعمال القمع والتنكيل في حق مواطنيها في كنف أنظمة تفتقر إلى الحد الأدنى من الحرية والديموقراطية وبالتالي إلى آليات فاعلة للمساءلة والمحاسبة. ومن المعروف أن الدولة العظمى لا تتوانى عن التشهير والتنديد بالدول اللاديموقراطية. وفقدان الديموقراطية يغدو قضية كبرى، يؤشر على إهدار لحقوق الإنسان في البلدان lt;lt;المارقةgt;gt; فقط، أي البلدان التي تناهض سياسات الدولة العظمى أو تهدد مصالحها المباشرة دولياً.
ولا مشاحة في أن أعتى أسلحة الإرهاب الدولي على الإطلاق هي أسلحة الدمار الشامل، بما فيها القنبلة النووية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية. فالدول التي تمتلك هذه الأسلحة أو بعضها، ومنها الدولة العظمى وبعض الدول الكبرى الأخرى، كما منها إسرائيل والهند والصين والباكستان، هي دول إرهابية بامتياز. فهذه الأسلحة هي أسلحة إبادة جماعية، لا تميّز بين عسكري ومدني، أو بين مسلح وأعزل، أو بين طفل أو شيخ أو امرأة. ومجرد اقتناء هذه الأسلحة إنما ينم عن استعداد لاستخدامها في حالات معينة، وإلا فما الحكمة من اقتنائها؟ إن مجرد اقتنائها إنما ينم عن وجود نية مبيتة إجرامية لا بل إرهابية.
من المألوف وصم كل من يقوم بعملية انتحارية أو استشهادية تودي بحياة مدنيين بالإرهابي. نحن بالطبع نرفض رفضاً قاطعاً ونستنكر أي عملية تودي بحياة أبرياء عزل أياً تكن هويتهم أو انتماءاتهم، ولكن العمليات الاستشهادية المركزة على أهداف عسكرية عدوانية، والتي تصون حياة الأبرياء، هي سلاح ماض مشروع، لا بل إن التجارب أظهرت أن العمليات الاستشهادية هي الرد الأفعل على أسلحة الدمار الشامل. فالقنابل الذرية عاجزة عن الرد على العمليات الاستشهادية. فالاستشهاد هو سلاح الفقير والمتخلّف تكنولوجياً في الصراعات الدولية. فإذا كانت العمليات الاستشهادية التي تستهدف أبرياء تنطوي على امتهان لحق الإنسان في الحياة وبالتالي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، فإن مجرد امتلاك أسلحة دمار شامل من جانب دول عظمى كبرى إنما هو في منزلة منتهى الإرهاب وبالتالي أفظع تحد لحقوق الإنسان على المستوى العالمي.
وفي الحديث عن القتل والإعدام لا بد من وقفة أمام ما يشهد لبنان من تحقيق دولي في الجريمة النكراء التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمه الله. والأمل كبير في جلاء ملابسات الجريمة الفظيعة على يد القاضي الألماني ميليس. ولن تكون هناك نهاية فعلية لمسلسل الإجرام الذي ما فتئ بلدنا مسرحاً له إلا بكشف المسؤولين عن هذه الجريمة الكبرى. عسى أن يكون فك رموز هذه الجريمة مفتاحاً لفك رموز سائر الجرائم التي أودت بحياة كبار من لبنان.
ولكن لا بد من التنبيه إلى أن المطلوب تحديد هوية الجناة وعدم الاكتفاء باتهام جهات. فالعجز عن تحديد هوية الجناة والاكتفاء بتوجيه إصبع الاتهام لجهة من الجهات سيكون من شأنه تعريض البلاد لفتن فئوية لا تُحمد عقباها.
وإذا ما آل التحقيق إلى تحديد المسؤولين بأسمائهم، فلا بد أن يحال هؤلاء على المحاكمة. والمحاكمة قد تكون داخل لبنان وقد تكون عبر محكمة دولية. المحاكمة الداخلية قد تفضي إلى إعدام الجناة، باعتبار أن عقوبة الإعدام ملحوظة في القانون اللبناني. أما المحاكمة الدولية فسيكون الإعدام فيها مستبعداً كلياً، إذ أن عقوبة الإعدام مرفوضة دولياً بوجه عام.
التعليقات