الأحد:08. 01. 2006
رجاء النقاش
مازلنا نعيش في رحلة حرة مع أجواء الاحتفال بالعقادrlm;,rlm; الذي يمر علي رحيله في مارس المقبل اثنان وأربعون عاماrlm;,rlm; وقد كان من أهم الملاحظات اللافت للنظر عموما في حياة العقادrlm;,rlm; أن هذه الشخصية الأدبية والفكرية العظيمة لم تعرف أي مواقف معتدلة يمكننا أن نقول عنها إنها مواقف وسطrlm;,rlm; وكل ما يتصل بالعقاد كان عنيفاrlm;,rlm; فالذين يحبونه كانوا يتطرفون في حبهrlm;,rlm; ويصبحون أشبه بالدراويش في هواهrlm;,rlm;
والذين يكرهونه كانوا أيضا يتطرفون في كرههrlm;,rlm; والعقاد نفسه لم يكن يعرف الوسطrlm;,rlm; فهو إما أن يكون محبا مندفعا في حبهrlm;,rlm; أو يكون مقاتلا عنيدا لايتردد في استخدام أعنف الأسلحة الفكرية ضد أعدائهrlm;,rlm; حتي وصل الأمر إلي حد أنه تعرض يوما للاغتيال في محاولة لم تنجح وذلك كما يحدثنا أحد تلاميذ العقاد وهو الشاعر والأديب الكبير المعروف العوضي الوكيل في كتاب ممتع ومهم عنوانه العقاد وخصومه وقد تعرض العقاد مرة أخري للضرب في الظلام وهو عائد إلي بيته في مصر الجديدةrlm;,rlm; كما يحدثنا عن ذلك أحد خصوم العقاد الأشداءrlm;,rlm; وهو الدكتور عبدالرحمن بدوي في مذكراتهrlm;.rlm;
حديثنا لايزال متصلا بشعر العقادrlm;,rlm; وفي هذا المجال نشير هنا إلي موقف لأديب من أكبر وأخطر الأدباء المعروفين من جيل العقاد نفسهrlm;,rlm; وهو مصطفي صادق الرافعيrlm;(1880rlm; ـrlm;1937)rlm; فقد كان الرافعي من أشد المعترضين والناقمين لشعر العقادrlm;,rlm; وقد شن حملة عنيفة وقاسية إلي حد الشراسة في كتاب كان مشهوراrlm;,rlm; وإن كان صاحب سمعة سيئة في الجيل الماضيrlm;,rlm; وهو كتاب علي السفود والسفود علي وزن دبوسrlm;,rlm; و هو السيخ الذي يتم عليه شواء اللحم أو الكباب وقد أراد الرافعي بهذا العنوان أن يقول إنه يشوي العقاد علي هذا السنود أو هذا السيخ النقديrlm;.rlm;
ومن المؤكد والثابت أن كتاب السفود كان جزءا من معركة أدبية وشخصية كبيرة بين العقاد والرافعيrlm;,rlm; وهي معركة تمتد جذورها إلي بعض الأسباب السياسية وبعض الصراع حول مصالح خاصةrlm;,rlm; والأستاذ العوضي الوكيل في كتابه عن العقاد وخصومه يقول إن حملة الرافعي علي العقاد كانت بتحريض وتوجيه من القصر في عصر الملك فؤادrlm;,rlm; وبالتحديد في سنة صدور كتاب الرافعي علي السفود وهي سنةrlm;1930,rlm; فقد كان العقاد في هذا العام أحد أكبر خصوم الملك فؤادrlm;,rlm; وقد تصدي في مجلس النوابrlm;,rlm; وكان عضوا فيهrlm;,rlm; للمحاولات التي قام بها الملك من أجل إلغاء دستورrlm;1923,rlm;
وقال العقاد في البرلمان كلمته المشهورة إننا علي استعداد لأن نسحق أكبر رأس في البلاد إذا امتدت يده إلي الدستورrlm;,rlm; وأكبر رأس في البلاد بالطبع في ذلك الوقت كان هو الملك فؤادrlm;,rlm; وقد دفع العقاد ثمن موقفه الشجاعrlm;,rlm; فقد ألغي الملك في تلك السنةrlm;1930rlm; دستورrlm;1923,rlm; وكان جزاء العقاد في ذلك الوقت أن يدخل السجن لمدة تسعة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكيةrlm;.rlm;
في تلك الأجواء يقال إن القصر الملكي كان يحرض الرافعي علي العقادrlm;,rlm; وأسرة الرافعي عموما لديها ولاء قديم لأسرة محمد عليrlm;,rlm; وذلك لأن محمد علي هو الذي أتي بأسرة الرافعي من مدينة طرابلس في الشام إلي مصرrlm;,rlm; لتتولي مهنة القضاءrlm;,rlm; ويقال إن الملك فؤاد قد كافأ الرافعي علي هجومه ضد العقادrlm;,rlm; فالرافعي نفسه يذكر أنه تلقي من الملك إعانة ملكية ضخمةrlm;,rlm; وذلك في إحدي رسائله لصديقه الشيخ محمود أبو ريةrlm;.rlm;
كما أن القصر الملكي قد قرر إيفاد ابن الرافعي محمد إلي أوروبا ليدرس الطب علي نفقة الجيب الملكي الخاص كما جاء في قرار هذه البعثةrlm;.rlm; وهذه كلها أمور وأقوال تحتاج إلي مزيد من الدراسة والتدقيق والبحث عما هو صحيح فيها وما هو بعيد عن ذلكrlm;.rlm;
نعود إلي كتاب علي السفود لنقول إنه كان قمة في القسوة والهجاء العنيف واستخدام ألفاظ لامفر من وصفها بالبذاءة ضد العقادrlm;,rlm; وهو أمر لم يكن يليق بأديب كبير مثل الرافعي كان له مقام كبير وجليل بين الناسrlm;.rlm; ولاشك أن الرافعي نفسه كان يشعر بشيء من ذلكrlm;,rlm; ومن هنا فإن كتاب علي السفود في طبعته الأولي والوحيدة حتي الآن لايحمل اسم الرافعيrlm;,rlm; وقد اكتفي الناشر بأن يكتب تحت عنوان الكتاب إنه نقد تحليلي بقلم إمام من أئمة الأدبrlm;.rlm;
وقد روي الأديب الكبير أحمد حسن الزيات في مقال له بمجلة الرسالة بتاريخrlm;13rlm; مايو سنةrlm;1940rlm; العدد رقمrlm;358,rlm; أن الرافعي قال له في حديث خاصrlm;:rlm; إن كتابه علي السفود هو رجس من عمل الشيطانrlm;.rlm;
ويكفي أن نشير هنا إلي بعض ما اندفع إليه الرافعي في وصف العقادrlm;,rlm; حيث سماه باسم الشاعر المراحيضي وذلك تعليقا علي بيت ضاحك للعقاد عن طفل صغير من أقربائه يقول فيهrlm;:rlm; مرحاضه أفخر أثوابناrlm;.rlm;
والمعني في هذا الكلام الهزلي والمقصود به أن يكون فكاهة وسخريةrlm;,rlm; هو أن الطفل ـ دون إرادته ـ قد يجعل من أفخر أثواب الذين يحملون علي صدورهم مرحاضا لهrlm;,rlm; والكلام ـ كما أشرت ـ هو فكاهة ولكن الرافعي استخدمه ليخرج منه بوصف خادش للعقاد علي أنه شاعر مراحيضيrlm;!rlm;
ولاشك أن هذا العصرrlm;,rlm; أي النصف الأول من القرن العشرينrlm;,rlm; وبالتحديد العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرنrlm;,rlm; هو عصر يستحق أن نسميه باسم عصر القسوة في النقد الأدبيrlm;,rlm; فقد كان العقاد قاسيا في نقده لشوقي وهجومه عليهrlm;,rlm; وكان طه حسين قاسيا جدا في نقده للمنفلوطيrlm;,rlm; وها هو الرافعي يمارس القسوة نفسها في نقده للعقادrlm;,rlm; بل إنه يسبق الجميع في تجاوزه لكل الخطوط الأخلاقية والذوقية الحمراءrlm;.rlm;
ولاتفسير لعصر القسوة هذا في النقد الأدبيrlm;,rlm; إلا بأن معارك الأدب قد تأثرت بالمعارك السياسية والحزبيةrlm;,rlm; حيث كان الصراع بين السياسيين والأحزاب عنيفا جداrlm;,rlm; مما شغل الجميع عن القضايا المهمة مثل قضية الاستقلال وإنهاء الاحتلالrlm;,rlm; وقد كان الأدباء يعيشون في قلب المعارك السياسيةrlm;,rlm; فلما عادوا إلي ميدان الأدب نقلوا إليه أساليب القتال السياسي وفرضوه علي النقد الأدبيrlm;.rlm;
ولاشك أن ذلك قد أهدر جانبا كبيرا من نبوغ الأدباء في تلك الفترةrlm;,rlm; فأصبحوا أشبه ما يكونون بشعراء العصر الأموي الذين أهدروا نبوغهم فيما سمي باسم النقائض والتي اشتهر بها الأخطل وجرير والفرزدقrlm;,rlm; وهذه النقائض لاتعدو أن تكون سبا وشتما متبادلا بالأم والأب والقبيلةrlm;,rlm; وغير ذلك بين شعراء تلك الفترةrlm;,rlm; وكان الجمهور يتسلي ويلهو بهذه النقائض أو بهذا السب المتبادل بين الشعراءrlm;,rlm; بينما كان خلفاء بني أمية سعداء بذلكrlm;,rlm; بل كانوا يحرضون الشعراء ضد بعضهم البعض ويشجعونهم ويملأون جيوبهم بالأموال كلما ارتفعت أصواتهم بالهجاء المتبادلrlm;,rlm;
وبذلك كان الجمهور يتسلي والشعراء يهتكون أعراض بعضهم البعض بالسب والشتمrlm;,rlm; وبنو أمية يحكمون كما يشاءونrlm;,rlm; لأن الأمة كلها كانت مشغولة بمتابعة هذه النقائض وما فيها من سفاهات وتفاهاتrlm;!rlm;
التعليقات