الأحد:15. 01. 2006

أبو خيدون

في أواخر أيامه، كان عميد الأدب العربي طه حسين يعرب عن تبرمه بأمية المثقفين المنتشرة على نطاق واسع في الوطن العربي، ويقول إن الجامعات تخرج لنا فئات تتحدث بلغات غريبة بحيث تبدو، عندما تتحدث، كأنها تحاور أشخاصا في ذهنها. وما زلت أذكر كيف كان البسطاء من الناس يسخرون من بعض خريجي الجامعات لفقر ثقافتهم وجهلهم بأمور الحياة، وحتى بالأمور التي تتعلق باختصاصهم. وفي التراث الشعبي نكات كثيرة عن هؤلاء من بينها نكتة عن طبيب أمضى سنوات طويلة في دراسة الطب، وبعد تخرجه فتح عيادة، وكانت أول زبائنه امرأة في حالة وضع، ودخل الطبيب إلى غرفة العمليات بينما أقارب المرأة ينتظرون في الخارج، وبعد فترة خرج وقال لهم: ldquo;حفاظا على صحة الزوج اضطررنا للقضاء على الطفل وأمهrdquo;. وهاهو الشاعر عبد الوهاب البياتي يقول إنه من خلال تجربته كشاعر اكتشف أن معظم الذين يكتبون في النقد ممن يعتبرون أساتذة في النقد الأدبي في الدول العربية لا يستطيعون فهم مضمون القصيدة التي يكتبون عنها، ويتساءل: ldquo;كيف يمكن لناقد متخصص في الدلالية والأسلوبية مثلا أن يكتب عن قصيدة إذا كان لا يستطيع استيعاب نصها، ولا أقول مضمونهاrdquo;. ويضيف: ldquo;إن مثقفينا استعاروا ثيابا غريبة، وفقدوا شخصياتهم وأصواتهم الحقيقيةrdquo;.

وهذا الكلام ينبغي ألا نمر عليه مرور الكرام، فهو يكشف عمق الهوة بين معاهدنا التعليمية واحتياجاتنا الروحية والمادية، والمشكلة تبدأ من المدرسة الابتدائية، مرورا بالثانوية، والجامعة، فمستوى التعليم في الجامعات حاليا لا يبلغ مستوى التعليم الثانوي في بداية القرن الماضي عندما كان طه حسين والعقاد وأحمد شوقي طلابا في الثانوية، ومعظم الأدباء الذين يكتبون الشعر والقصة والرواية حاليا لا يعرفون من اللغة العربية ولا من نحوها وصرفها إلا بمقدار ما يعرفه الطالب الثانوي، بل إنهم لا يستطيعون استيعاب بعض النصوص الأدبية، بالرغم من أن هذه النصوص ليست غامضة بالمستوى العام أو الخاص، والأخطر من ذلك أن مناهج التعليم عندنا ليست موضوعة لتلبي حاجاتنا المادية والروحية، لأنها مستوحاة من الغرب، وهي إلى الغرب أقرب، والطبيب عندنا يعرف كل شركات الأدوية الغربية ومنتوجاتها المتداولة في أسواق العالم، ولكنه لا يعرف كيف كان العرب يعالجون مرضاهم بنجاح مذهل قبل وجود هذه الشركات وأدويتها. والمهندس يستطيع أن يصمم لك ناطحة سحاب، أو بناية على شكل بيانو مثلا، ولكنه لا يستطيع أن يصمم لك بناية مستوحاة من تراثنا على شكل خيمة، كما أن الهندسة المعمارية الإسلامية غابت كليا من عواصمنا العربية، وكل البنايات التي نراها أمامنا عبارة عن كتل ضخمة من الاسمنت شبيهة بتلك الموجودة في الغرب، وعندما تنظر إليها لا ترى فيها ما يتعلق بتاريخك وتراثك، ولذلك تحس نحوها بالغربة.

وحتى بعض أساتذة الجامعات الذين يخرجون الأطباء والمهندسين ودارسي اللغات والآداب لا يخرجون عن هذه القاعدة، ولو تحدثت إلى واحد منهم، ليس في اختصاصك أنت، بل في اختصاصه هو، لاكتشفت أن معلوماته، أو ما يستطيع أن يوصل إليك من معلوماته، لا تتعدى المعلومات العامة المشحونة بالأغلاط. حتى الدكاترة الذين يظهرون على شاشات القنوات الفضائية يوزعون تنظيراتهم التي تثبت الأيام خطأها ذات اليمين وذات الشمال، أحس أن الواحد منهم يذاكر في منزله قبل يوم من الندوة التي يشارك بها، أو المحاضرة التي يلقيها، ويذهب إلى الندوة، أو المحاضرة، ويلقي ما علق في ذهنه من دراسته في اليوم السابق، كما يلقى التلميذ المعلومات التي حفظها على ورقة الامتحان، ولو سألت هذا الدكتور أي سؤال خارج الدرس، لهاج وماج وحار واغتاظ.

إن الخطوة الأولى في تصحيح الوضع المزري الذي تعيشه الأمة العربية حالياً ينبغي أن تبدأ بإعادة النظر في مناهجنا الدراسية، وإزالة التناقض بين ثقافتنا وتراثنا، واستحداث مناهج تفي بحاجاتنا الحياتية والروحية. وإذا فعلنا ذلك، فإن الأمة العربية قد تجد لها مكانا بين الأمم، في القرن المقبل.

[email protected]