علي سعد الموسى


في آخر مقاله الذي نشر الأسبوع الماضي في نيويورك تايمز يقول توماس فريدمان: quot;أنا آمل أن يكون العراق وأفغانستان استثناء ولكن حتى لو كان الأمر هكذا وتحقق الأمر فما زال من الصعب أن يكون هذان البلدان قدوة تنتشر في الشرق الأوسط في ذات الوقت الذي وصل فيه سعر النفط إلى 67 دولاراً وهو ما يعني أن الأنظمة العسكرية التي سيطرت على الحياة السياسية في الشرق ستصبح أكثر ثراء وقوة بفضل دولارات النفط وأقول لكم أخيراً: ليس هناك الكثير الذي بإمكانه أن ينمو في حديقة تسقى بالنفطquot;. انتهى.
أزعم أنني ضمن المجموعة التي لم تفارق لهذا الكاتب مقالاً إلا إذا استعصى الظرف وأرى أيضاً أنه في النص quot;الإنجليزيquot; بالتحديد يأتي على رأس الكتاب الذين يملكون قدرة لغوية هائلة لست بالمبالغ إن قلت إنه على رأس القلائل الذين يشكلون اليوم نمطية التأثير على المتلقي الأمريكي. وللذين لا يعرفون توماس فريدمان فهو كاتب أمريكي ليبرالي من جذور يهودية. متفرغ للكتابة لحساب صحيفة نيويورك تايمز وتنشر مقالاته بيعاً بالتزامن في أكثر من 400 مطبوعة عالمية وتترجم اليوم لأكثر من خمس وعشرين لغة. هو اليوم يمثل مدرسة مستقلة لها أدلجتها ولها خطوطها الدقيقة ومرة أخرى، فليست بالمبالغة إن قلنا إن لها تأثيرها على صانع القرار الأمريكي وبالخصوص أنه يقف على خط مناهض لتوجهات الجمهوريين وسياسات الإدارة الأمريكية الحالية: إنه يرى أنها متساهلة أكثر مما يجب كونها أسيرة - للوبي النفط - بما لهذا من تأثير على الحريات العولمية ولهذا يبدو صلب مقالاته طرقاً متشدداً في النقد لمفاهيم الحريات والنفط وهو ما سنناقشه معاً في هذا المقال. والحال، أن حال الحريات العامة التي يدندن حولها فريدمان وبالخصوص في منطقة الشرق الأوسط لا يدع مجالاً كبيراً أو هامشاً للمناورة في وجه أطروحاته. ذلك أنه سيظل على الدوام يجد في - خروقاتنا - الاجتماعية والسياسية مخرجاً يدعم به حججه المتواصلة. لكن الثابت تحليلياً، أن توماس فريدمان، ينظر إلى مفاهيم الحريات العامة من وجهة نظر غربية تأخذ الأنموذج الأمريكي كمثال يحاول أن يعممه لقياسات المسطرة الكونية حول هذا المصطلح. مثل هذا القياس يبدو مستغرباً من كاتب ألف كتاباً عن - استراتيجيات العولمة - وبالتالي كان بالفطرة أكثر ما يكون ملماً بحجم التباينات الثقافية الكونية، بل حتمية هذه التباينات وضرورتها القصوى في صيرورة الحياة الإنسانية. وبدلاً من أن ينظر لهذه التباينات على أنها دلالات تعددية في صلب الحريات الاختيارية للأمة والشعوب، صار يمارس دور الوصاية عبر فرض نمط قياسي واحد هو الأنموذج الأمريكي فصار يقيس الحريات العولمية بحسب زوايا الانحراف أو التطابق مع هذا الأنموذج.
هو ونحن في غنى عن القول إن بشارته بأنموذج أمريكي للحرية مثلما لها الأنصار لها أيضا جبهات الرفض داخل الأنساق الاجتماعية والسياسية الغربية مثلما لأمريكا أحزابها في العالم العربي فلها أيضا معارضو نمط هوياتها في الغرب نفسه، أود تذكيره أن أمريكا التي تستأثر وحدها بنصف اقتصاد الكون تضم اليوم نحو عشرين مليون مواطن تحت خط الفقر ويحظون بدرجات تعليم بالغة التخلف. والمدهش أن 90% من حملة هذا الرقم هم من طبقات السود والملونين الذين ليسوا تاريخا مثلما يوهمنا توماس فريدمان بل حقيقة ثابتة تعيش في - جنوب - وجنبات المدن الأمريكية، لا يمكن لتوماس فريدمان ولا غيره أن يثبت عكس وضع المرأة الأمريكية التي لا تتسلم اليوم هرم إمارة كبرى وإذا كان سيحاجج بالسيدة أولبرايت أو رايس فسأقول له إن دولة مثل بنجلاديش تتربع اليوم بامتياز على رأس هرم الفساد العالمي ومع هذا سبقت أمريكا حتى اللحظة بعقدين من الزمن حين أعطت مقعدها الرئاسي الأول لامرأة. حتى على مستويات تطبيق القانون، فدولتك التي أعدمت بحكم قاض ما قبل الأمس مجرماً في ولاية أنديانا وما زالت حتى اللحظة تعترف بعقوبة الإعدام، تلقى استهجانا من حقوقيين آخرين يرون في ذات القانون انتهاكا همجيا وشعوب أيضا ترى فيه وحشية لا إنسانية. على رأس هؤلاء شركاء الحلم الأمريكي من الأوروبيين وعليك أن تدرك من هذه الاختلافات جوهر المبادئ التي تقوم عليها فلسفة الحريات العامة والنظر إليها من شعب لآخر ومن ثقافة إلى أخرى، أعترف لكم بسبق في التطبيق الآني لمفهوم الحرية ولنا بمنهج لا يطبق. ومع هذا تبقى النظرة إلى مفهوم الحرية نسبية وما كان في أمريكا مسألة شخصية كالمثلية النسبية فانظر إلى ذات المسألة لا لدينا، بل في الفاتيكان لتدرك الفرق.
ولئن غلبتني في قياسات الفلسفة إلى الحرية، فأظنني أقرب إلى الانتصار إذا ما تجادلنا حول النفط وأسعاره والمستفيد منه. يدندن توماس فريدمان باستمرار على سيطرة الملالي والأصوليين على أموال الزيت التي تصل اليوم إلى مستويات قياسية بفضل النمط الاستهلاكي القوي. في أكثر من مكان يحذر فريدمان من أن هاتين الفرقتين المتطرفتين بزعمه هما من يتحكم في هذا العالم بل من يحكمه. هذا هو صلب التبشير والتحذير من أطروحاته المختلفة. إنه يتناسى الحقيقة التي يعرفها كل الكون في أن عشرين مليون يهودي لا الملالي ولا الأصوليين هم من يحكم هذا العالم اليوم وهم من يمسكون كل اللعبة ويخرسون أمامها كل الأفواه.
يعلم فريدمان مثلما يعلم كل من حوله أن الأرقام القياسية التي يتحدث عنها في سعر النفط هي ذات الأرقام القياسية، وبفارق ضئيل، والتي كانت لذات السلعة قبل ثلاثة عقود من الزمن. في ذات الثلاثة عقود، ارتفعت أسعار السيارة الأمريكية أكثر من خمسة أضعاف وبتنا نشتري علبة الحليب بقيمة تفوق الأصناف العشرة فلماذا يظن فريدمان أن لثقافته ومجتمعه الحق في رفع هذه المؤشرات السعرية ولا يرى ذات الحق لسلعة كونية هي أهم سلعة تجارية بلا منازع. ودعوني أختم معه بجملته الأخيرة التي أشرت إليها في صدر المقال حين يقول: ليس هناك الكثير الذي ينمو في حديقة تسقى بالنفط. لقد أبحرت تقانة الغرب وأمريكا تحديداً على ثورة صناعية هائلة أثمرت اقتصاداً قد لا تسعه الأرقام الإنسانية الحسابية. لكن أرقام أمريكا الاقتصادية هي التي قادتها لأن تخوض حتى اليوم 80 حرباً بالأدلة منها ثلاثون حرباً في الثلاثين عاماً الأخيرة من فيتنام إلى بنما والسلفادور وأخيراً في العراق. ذات الأرقام المالية الحسابية هي التي أنتجت ترسانة حربية بها من أسلحة الدمار الشامل ما يبيد 500 كرة أرضية في يوم واحد. بها الآلاف الذين قتلتهم أمريكا باليورانيوم النقي في اليابان والمخصب في كل ما عداه، فهل يستمع إلينا إن قلنا له بكل لطف: ليس هناك الكثير الذي بإمكانه أن ينمو في غابة تستنشق اليورانيوم.


*أكاديمي وكاتب سعودي