حسان حيدر

رسالة صدام حسين الكاريكاتورية الى مناصريه تفضح مأساة العراق. صار الديكتاتور رحيماً تؤرقه انباء القتل العشوائي والذبح على الهوية الطائفية، وتفطر قلبه حتى تدفعه الى الرأفة بالواشين بولديه، بعدما كان يشجع الناس على الوشاية وينصب الاخ رقيباً على أخيه. من يقرأ كلماته يعجب من انسانيته وحلمه. يستفيق الطاغية متأخراً ويكتشف العفو عندما فقد المقدرة عليه. كان يفتخر بأنه قتل بيديه، وكان يطيب له ان يظهر على جمهوره حاملا بندقية يطلق منها النار بيد واحدة لارهاب خصومه ومحبيه على السواء. لكنه امس قال للقاضي الذي يحاكمه انه حزين للرؤوس التي تسقط كل يوم في الشوارع. ربما لو تعرف الى ضميره خلال العقود التي حكم العراق بها بحد السيف لما وصل بلده الى ما هو عليه اليوم. الحكام المهزومون يندمون متأخرين. يندمون عندما لا يعود لديهم خيار آخر. لو فكر أكثر قليلا قبل ان يغزو الكويت لما دُمر جيشه وحُوصر بلده وجاع شعبه. لو واتته الحكمة والحلم عندما كان يمسك برقاب العراقيين ويضغط عليها بأصابع القسوة والانتقام، لما ثاروا عليه وسهلوا احتلال ارضهم التي يحبون.

لكن كلمات صدام الجالس في قفص الاتهام منتظرا حكم من كانوا لا يردون له حكماً ولا أمرا، مرآة للحقيقة المفجعة: العراق كله يسير على هديه وخطاه، والذين جاؤوا بعده باسم التغيير صاروا مثله، او هم لم يختلفوا عنه يوما. عاد العراقيون laquo;الاحرارraquo; الى انتماءاتهم البدائية الاولى، تخلوا عن الوطن الجامع ورسموا الحدود بين مكوناته وقراه. كان صدام يستخدم الطوائف والمذاهب والعشائر ليحكم وحيداً وليحكم الجميع. يلعب بالقوى والتوازنات والاشخاص، ويرشو بالرتب والمناصب والمال ليبقى سيد اللعبة والقصر. واذا أعيته الحيلة بطش بلا رحمة بالمتمنعين والحالمين بوطن افضل. اما هم، فهذه العناوين نفسها ليست شعارات يلهون بها مثلما كان يفعل. انها في قرارة عقولهم وقلوبهم، يمارسونها في السر والعلن، ويلقنونها لأولادهم واحيائهم ومدنهم. الطائفية والمذهبية والفئوية والعشائرية والقبلية صارت في صميم تكوينهم. واذا حاد عنها أحدهم نبذوه ونعتوه بالخيانة والعمالة. بعض الشيعة مهجوس بالانتقام، وبعضهم بالخوف من العودة الى الماضي، والبعض الآخر مرتهن الإرادة والقرار للخارج الذي موله وسلحه ورعاه طويلا. وبعض السنة متحسر على عز انقضى وخير نضب، وبعض آخر يؤلمه تبادل الادوار والطغيان ويدفع ثمن عهد صدام ونزواته المكلفة، وثالث التجأ الى البدايات والتاريخ ليدافع عن نفسه ووجوده. اما الاكراد فيبنون بدأب ممزوج بالقلق والخوف المستوطن من المذابح مداميك استقلالهم الموعود ليكونوا جاهزين اذا ما حانت اللحظة المواتية. يشاركون في السلطة الجديدة من دون ان يتورطوا عميقاً في التزامها. يتجنبون الغرق في همومها المتوالدة بلا توقف حتى لا تحرمهم طمأنينة الحلم بألوان الخرائط. هموم العلاقة بالجيران تكفيهم كما يقولون. والعراق الموحد لم يعد من أولوياتهم.

صار العراق laquo;اوطاناraquo; والعراقيون laquo;شعوباraquo;. الذين يحاكمون صدام على جرائمه، من يحاكمهم على جرائمهم بحق العراق ووحدته؟ أليست مفارقة محزنة ان يتحسر العراقيون على ماضيهم لأنهم لا يرون في المستقبل سوى مزيد من الانهيار والقتل وتسفيه الاوطان؟

لو عاد صدام يوما فهو لن يتذكر بالتأكيد ولو حرفاً واحداً مما كتب.