أمجد ناصر


مبروك!
.. واخيرا صار للعرب لسان انكليزي فصيح، هو، شئنا ام ابينا، لسان العصر الراهن ووسيطه اللغوي العابر للحدود والثقافات بقوة دفع امبراطوريتين تسلمتا راية البارود والسلعة والنقد والمختبرات والكتاب من بعضهما البعض من دون ان يكون هناك فاصل زمني تتسلل اليه قوة اخري.
للغات مثل الحضارات التي انتجتها دورة عمرية، تولد وتشب وتشيخ كما علمنا ذلك سلفنا الكبير ابن خلدون.
في زمن سابق اوصي بابا الفاتيكان ماركو بولو، وهو يستعد لرحلته الصينية، ان يحمل معه كتابا باللغة العربية لامبراطور الصين. قال البابا للمغامر الجنوي: ان كان خان الصين العظيم لا يعرف لغتننا، فبالتأكيد يعرف شيئا من هذه اللغة النبيلة!

حدث ذلك قريبا من غيمة هارون الرشيد التي عبرت عاصمته ولم تلق حمولتها الخيرة علي بغداد، فلم يأسَ امبراطورعصره، فهو يعرف ان خراجها عائد اليه!
كل هذا تاريخ طبعا. متحف كبير تثوي فيه الأوابد والشواخص والمستحثات، وان كان بعضنا ما يزال يظن ان تلك (اللغة النبيلة) ما تزال تُقرأ في بلاط الصين الاحمر، وغيمة هارون الرشيد ما تزال تُرسل خراجها الي بغداد المفخخة بالاحتلال والعصبيات الطائفية والجثث المجهولة الهويةّ!

وبصرف النظر عن كيف ولماذا لم تعد (لغة الضاد) قادرة حتي علي مخاطبة ابنائها، وكيف ولماذا صارت لغة شاعر من جزر كئيبة قاتمة ومعزولة لسان السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة والتكنولوجيا، بصرف النظر عن تلك الاستحقاقات التاريخية، فأنت لا تُسمع، اليوم، ولا تُري الا عبر هذا الوسيط اللغوي الذي امتص لغات ولهجات قريبة وبعيدة ليستوي علي عرش الخطاب الكوني.
الانكليزية لغة عالمنا اليوم. تلك بداهة ساطعة (وإن ليست ابدية) لا تحتاج الي مطالعات مؤلمة في تواريخ امم تتمدد باسترخاء كسول علي ارائك الماضي الباذخ.
وبهذه اللغة نرسم اليوم صورتنا.

هكذا فعل القائمون علي شبه جزيرة صغيرة لم تكن تُذكر من قبل ان تطلق (جزيرتها) بلغة امة من اثنتين وعشرين (دولة) فصارت (الجزيرة) في نحو عشر سنين الدولة العربية الاكبر والاكثر تأثيرا وفاعلية في جامعة عربية تتعفن في مكاتبها البيروقراطية.

كانت (الجزيرة) العربية حدثا تاريخيا فاضحا للتلفزيون البروتوكولي العربي وموعدا منتظرا بفارغ الصبر مع اصوات الكثرة المهمشة والحقائق المغيبة.. لكن هذا الحدث، علي اهميته، لم يستطع التخلص، تماما، من لغة عربية افتقدت، منذ زمن طويل، الي الدقة وركنت الي جعجعة وجرش فارغين.
لكن الامر قد لا يكون كذلك مع الحدث الاخر الفريد الذي دشن مرحلة تاريخية جديدة للاعلام العربي: الجزيرة الانكليزية.
ففي يوم الاربعاء الماضي وعند تعامد عقربي ساعة بيغ بن ظهرا انطلقت اول قناة فضائية عربية ناطقة بالانكليزية لتجوب اربعة اركان العالم. الحدث الذي طالما تمنياه في ظل هيمنة مطلقة للتلفزيونات الغربية حصل.

والمنتظر ان تكون القناة بحجم الامال المعلقة عليها.

ـ ـ ـ

في دراسة لجامعة غلاسكو الاسكتلندية حول ثقل الخبر الفلسطيني مقارنة بالخبر الاسرائيلي في البي بي سي كان للنتيجة المستخلصة من تلك الدراسة الاكاديمية وقع الفضيحة: تمثل الفلسطينيون بخمسة بالمئة من التغطية فيما كان للاسرائيليين الباقي.

واي باق؟

وقد تكون البي بي سي رأفت بنفسها عندما اعدت دراسة داخلية اشرف عليها سير كونتين توماس رئيس مجلس تصنيف الافلام البريطانية فخرجت بنتيجة مفادها ان تغطية هيئة الاذاعة البريطانية للصراع الفلسطيني الاسرائيلي (مضللة) و(قاصرة)!

هذه هي صورة الوضع العربي وحضوره في اكثر المنابر الاعلامية العالمية اعتدادا بمهنيتها و(حيدتها).
وهنا، بالضبط، تكمن اهمية هذا المولود الاعلامي الجديد.

لا ننتظر (ولا نريد بالتأكيد) ان تكون الجزيرة الانكليزية بوقا دعائيا عربيا موجها الي الرأي العام العالمي. فالابواق لا تؤثر. المنتظر، فقط، ان تنقل حقيقة ما يجري عندنا وفي العالم المهمش المترامي الاطراف الي جمهور العالم المسيطر. والحقيقة وحدها كافية. حقيقة الاحتلال الاسرائيلي لا تحتاج الي بوق دعاوي. فهي بحد ذاتها فاضحة. حقيقة الاحتلال الامريكي للعراق وتداعياته لا تحتاج الي تهويل فهي اصلا مهولة. حقيقة المجاعات والامراض والنزاعات المزمنة التي تفتك بأفريقيا تكفيها صورة تستقر علي الشاشة اكثر من ثلاثين ثانية. اكثر من (ساوند بايت) لرفع العتب. ليس صحيحا ان الجمهور البريطاني (مثلا) تهمه قضية طلاق بول مكارتني اكثر مما يجري في العراق وفلسطين وافريقيا واسيا وامريكا اللاتينية. تلك انانية بشعة ونهم تسويقي جشع يضرب صفحا عن مشاكل العالم المترابطة في زمن العولمة.

ما ننتظره، وما نريده، هو ان يعرف العالم ماذا يجري فعلا في الصراع المؤلم بين صواريخ القسام البدائية وطائرات اف 16 والاباشي، بين الميركافه ومتاهة الاسمنت والصفيح التي تسمي (مخيمات)، بين مقتل مستوطنة اسرائيلية ومسح عائلات بأكلمها عن وجه الارض، بين مشردي دارفور واستغلال قضيتهم الانسانية لاغراض سياسية نذلة من كل الاطراف، بين القبضة الروسية الشرسة والشيشانيين المجردين من القوة والصوت الخ..

ـ ـ ـ

يومان مرا علي انطلاقة الجزيرة الانكليزية التي حشد القائمون عليها نخبة من ابرز الاعلاميين العالميين الذين تحرروا من الخانات الضيقة التي كانت مؤسساتهم السابقة تحشر عالمنا وقضايانا فيها. وحصيلة اليومين الاولين اكثر مما هو متوقع. منذ اللحظة الاولي التي بدأ فيها البث يدرك المشاهد، مثلما يدرك الاعلامي المحترف علي السواء، انه امام عمل اعلامي عربي غير مسبوق. عمل يضاهي صنيع مؤسسات مماثلة لها عمر النسور في المهنة.
الاختبار الاول جاء من غزة. فلم نسمع من قبل علي البي بي سي او السي ان ان وصفا ومعجما يتناولان مأساة الناس هناك مثلما سمعناهما علي الجزيرة الانكليزية بأفواه مراسلين وصحافيين لم يتسللوا الي القناة عن طريق فتح او حماس او حزب الله او القوميين السوريين.

والاختبار الثاني جاء من برامج نقاش للقضايا الراهنة حيث يواجه محمد حسنين هيكل مسؤولا امريكيا رفيعا وينتزع منه اعترافا بأخطاء الادارة الامريكية في العراق وايران من دون ان يقطع مقدم البرنامج، لاسباب لها علاقة بـ(التوازن) كلام هيكل ويحوله الي لغو فارغ.
ثم هناك حضور قضايا العالم المحيط بنا، حيث طافت كاميرات ومراسلي الجزيرة الانكليزية علي بؤر التوتر والازمات المزمنة: دارفور، الكنغو، زمبابوي، ايران، العراق، سورية الخ..

ـ ـ ـ

هناك اهمية اضافية للجزيرة الانكليزية لم تكن بالحسبان. فهي لن تؤثر، حسب ظني، في المشهد الاعلامي العالمي فحسب بل وفي شقيقتها (ام اقول امها؟) العربية. سيبدو الفرق، ان استمرت الجزيرة العربية علي ما هي عليه اليوم، بين النسختين كبيرا. ستظهر لغة الجعجعة والجرش والتأتأة العقلية القائمة علي انتفاخ كاذب في البرامج الحوارية العربية امام لغة منضبطة وبحث دقيق وادارة حوار هادئة ومتمكنة.

ولن نقبل، نحن المشاهدين، ان تكون الجعجعة والعقائر العالية والتنفج وانتفاخ الانوات الفارغة من نصيبنا، بينما يكون عكس ذلك من نصيب مشاهد النسخة الانكليزية. ذلك تسليم مهزوم وجارح بان العقلية العربية غير العقلية الغربية.
مرة اخري نقول مبروك للنسخة الانكليزية من الجزيرة ونتمني ان تكون عنصر تحفيز لشقيقتها العربية.