الأربعاء 29 نوفمبر 2006


د. عبدالحميد الأنصاري

باغتيال وزير الصناعة اللبناني بيير الجميّل، وإقرار مجلس الأمن للصيغة النهائية للمحكمة الدولية المتعلقة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والجرائم السياسية السابقة واللاحقة وصولاً إلى جريمة اغتيال الجميّل، ثم إرسالها إلى لبنان لإقرارها من قبل مجلس الوزراء اللبناني... تنكشف المواقف الحقيقية من قيام المحكمة الدولية للفريقين الرئيسيين المتنازعين في لبنان: quot;قوى الأكثريةquot; (14 آذار) وتمثلها الحكومة اللبنانية، وquot;قوى الأقليةquot; (8 آذار) ويمثلها quot;حزب اللهquot; وحليفاه؛ الرئيس إيميل لحود والجنرال ميشل عون.

لقد أصبح واضحاً- في لبنان وفي خارجه- أن الفريق الأول مصمم على المحكمة الدولية، ومهما كان الثمن، للكشف عن حقيقة اليد الآثمة التي تفسد وتعبث بأمن لبنان واستقراره، وهي مستمرة في تصفية شرفاء لبنان الذين أرادوا حرية لبنان واستقلاليته بعيداً عن هيمنة الآخرين وتدخلهم المستمر في الشأن اللبناني، بينما يسعى الفريق الثاني وبكل الطرق، المشروعة وغير المشروعة، لعرقلة قيام هذه المحكمة الدولية مهما كانت النتائج المترتبة.

وفي ضوء ذلك نفهم مغزى وأهداف تلك التحركات السياسية المحمومة لـquot;حزب اللهquot; وحليفيه-مؤخراً- بدءاً من خطاب السيد نصر الله (التخويني والتهديدي) للحكومة والمطالبة بحكومة وحدة وطنية يكون لهم الثلث فيها، بحيث تصبح الحكومة رهينة قراراتهم، الأمر الذي رفضه فريق الأكثرية. وقال سعد الحريري رئيس كتلة quot;المستقبلquot; في البرلمان معللاً رفضه (الثلث المعطل) بقوله: quot;لا يمكننا تسليم الثلث المعطل لفريق 8 آذار، لأنه يمسك برئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ولأن الثلث المعطل يمكنه ساعة يشاء أن يطيح الحكومة بمجرد أن يستقيلquot;.

يريدون الثلث ليعطلوا قيام المحكمة الدولية، فإن لم يستطيعوا، تحكموا في عملها على الأقل. وحيث لم ينجحوا في تحقيق مطالبهم، لجأوا إلى التهديد بالنزول إلى الشارع، وترددوا خوفاً من نزول قوى الأكثرية لمجابهتهم وحصول ما لا يُحمد. ثم أوعزوا إلى وزرائهم الخمسة فاستقالوا ومارسوا ضغوطاً على وزراء آخرين بهدف إسقاط الحكومة دستورياً- بناءً على النص الدستوري (69) القاضي بأن الحكومة تعتبر مستقيلة إذا فقدت أكثر من ثلث أعضائها- فلم ينجحوا. ثم كان اغتيال الوزير الجميّل، والذي قد يفسره البعض في هذا السياق على أنه محاولة لإسقاط الحكومة عن طريق تصفية الوزراء! والملاحظ- فعلاً- دقة السيناريو المرسوم من قبل quot;حزب اللهquot; وحلفائه، ففي حين يبذل الحزب جهوداً مستميتة لإسقاط الحكومة ومنع المحكمة الدولية، نجد أن حلفاءه يقومون وبالتوازي والتناغم معه بإرسال خطابات والإدلاء بتصريحات تشكك في شرعية الحكومة القائمة وبطلان قراراتها.

الرئيس اللبناني يوجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان عن عدم شرعية الحكومة الحالية، وهو الرجل الذي انتهكت بسببه حرمة الدستور، كما يقول طارق الحميد، ثم يأتي تصريح نبيه بري المؤسف بأن حكومة السنيورة لم تعد (دستورية)، وأخيراً الرسالة التي وجهها الحليف الخارجي لـquot;حزب اللهquot; (سوريا)، وفيها طالبت عنان بعدم تشكيل المحكمة الدولية، وإلا فإن سوريا لن تكون لها علاقة بها.

تلك الجهود والتحركات والتصريحات والتهديدات... معاً، هدفها شيء واحد لا غير: منع المحكمة الدولية من القيام بواجبها في جلاء الحقيقة. والأسئلة المشروعة والمطروحة على خلفية هذا الاستقطاب السياسي الحاد هي: لماذا انقلبت مواقف quot;حزب اللهquot; من المحكمة الدولية، وقد كان مؤيداً ومشاركاً في الحكومة؟ وكما يقول رضوان السيد، فإن quot;قرارات مجلس الوزراء اللبناني خلال (15) شهراً اتخذت كلها بالتوافق أو بالإجماع، وما مرّ شيء حتى دون موافقة رئيس الجمهورية، حليف الحزب والجنرال عون أيضاًquot; (الاتحاد، 19/11/2006). وإذا كانت هذه الحكومة عميلة وخائفة، حسب منطق السيد نصرالله، فلماذا رضي المشاركة فيها كل هذه المدة؟! لماذا يتنكر الآن للحكومة التي أنقذته وحزبه من موت محقق؟!

موقف الحليفين (رئيس الجمهورية وعون) في رفضهما للمحكمة الدولية مفهوم ومبرر، ولكن أي تبرير وأي تفسير لانقلاب quot;حزب اللهquot;؟! ما الذي يخشاه quot;حزب اللهquot; من قيام المحكمة الدولية، وهي غير معنية بسلاحه المقدس؟! لماذا يعارض quot;حزب اللهquot; المحكمة الدولية- ودع عنك تصريحات نصرالله وبري مؤخراً، بأنهما يدعمان المحكمة الدولية- فهذا نوع من الجمبزة السياسية المكشوفة كما يقول الدكتور سعد بن طفلة: quot;منتهى الجمبزة السياسية أن يكون ميشيل عون وحسن نصرالله في خندق واحدquot;. ولأن العبرة بالسلوكيات والتحركات الفعلية في الساحة لا الأقوال؛ فإن هناك أكثر من تفسير أو تبرير لتغير موقف quot;حزب اللهquot; من حكومة السنيورة ومن المحكمة الدولية، من ذلك أن الحزب يعتقد- أو أنه صدق نفسه- بأنه انتصر انتصاراً إلهياً على إسرائيل، ومن ثم لابد أن يجني ثمار نصره. ولأن المنتصر لابد أن يملي شروطه على المهزوم (إسرائيل)، وذلك ما لم يحصل، فلا أقل من أن يفرض شروطه على الداخل اللبناني مهدداً: إما الثلث أو لا محكمة! مشكلة quot;حزب اللهquot;، أنه صدق نفسه من كونه انتصر ولا يريد أن يقتنع ويرى الواقع المرير وحقيقته أن إسرائيل دمرت لبنان، ولولا جهود السنيورة في المحفل الدولي لوقف إطلاق النار، لقضي على quot;حزب اللهquot; وأمينه وتمت تصفيتهم تماماً ولم يكن بوسع أحد إنقاذهم. ما قيمة إطلاق بضعة صواريخ مقابل هذا الثمن الباهظ الذي دفعه لبنان يا سماحة السيد؟ أي انتصار حقيقي، وقد أبعد سلاح المقاومة عن الجنوب بالشريط الفاصل؟ إلى متى يستمر quot;حزب اللهquot; في أوهام النصر منفصلاً عن الواقع؟ ما هذا المرض النفسي الذي أصابه؟ أين الحنكة والدهاء السياسي المشهور بهما الحزب في موقفه الأخير؟

هل هو غرور النصر-حقاً- طغى على العقل السياسي فغيّبه عن الحقائق المريرة الصلبة على أرض الواقع؟ لا أظن ذلك، والأرجح في تصوري، أن الحزب في موقفه الطارئ من سعيه لإسقاط الحكومة الوطنية ورفضه للمحكمة الدولية، إنما يخشى على أطراف داخلية وخارجية متحالفة معه، قد تكون متورطة في مسلسل الاغتيالات، ومن ثم تصبح مصداقية الحزب مهزوزة سياسياً واجتماعياً ودينياً وأخلاقياً على المستوى الداخلي اللبناني والخارجي العربي والدولي!