د. رضوان السيد


أتى البابا بنديكتوس السادس عشر إلى تركيا أخيراً بعد أن تأجلت زيارتُه مرةً أو مرتين. تأجلت الزيارةُ في المرة الأولى للاختلاف الذي نشب من جديدٍ بشأن قبرص. أما في المرة الثانية فقد اعتذر البابا وطلب التأجيل من جديد بعد محاضرته الشهيرة بجامعة رغنسبورغ الألمانية في شهر سبتمبر الماضي. وما كانت علاقةُ البابا بالأتراك جيدةً أبداً منذ زمنٍ طويل. فعندما كان مطراناً لميونيخ في سبعينيات القرن الماضي، كان من رأيه عدم تجنيس قُدامى المهاجرين الأتراك العاملين بألمانيا. ثم إنه ظلَّ سيئ الرأي بالحجاب، الذي رأى فيه انتقاصاً من القيمة الإنسانية للمرأة. وعندما استعرت النقاشات حول الدستور الأوروبي، ثم حول بدء مفاوضات دخول تركيا إلى الاتحاد، كانت للبابا بنديكتوس (وكان ما يزال كاردينالاً ورئيساً لمجمع الإيمان بالفاتيكان) ملاحظاتٌ رافضةٌ لسببين: هوية أوروبا المسيحية العريقة، وغربة الأتراك عن أوروبا ديناً وثقافةً وتاريخاً. ولذلك؛ فإنّ محاضرته بجامعة رغنسبورغ، وعلى خلاف العادة، أثارت الجمهور التركيَّ إثارةً شديدة. والمعروف أنه في مقدمة تلك المحاضرة ما ذكر فقط اقتباساً يُسيئُ للنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام فقط؛ بل إنّ ذلك الاقتباس هو لإمبراطورٍ بيزنطيٍ كان يخوضُ حرباً ضدّ الأتراك، الذين كانوا يحاصرون القسطنطينية عام 1392.

رغم ذلك كلِّه، قرر البابا زيارةَ تركيا. بل وقال في جلسته مع رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان الذي استقبله في المطار إنه يؤيد دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي! وهكذا فإنّ الزيارةَ وما جرى فيها إزاء الأرثوذكس وإزاء المسلمين، تشير إلى مراجعةٍ جديةٍ من جانب البابا لسائر أفكاره بشأن العلاقات مع المسيحيات الأخرى، ومع الديانات الأخرى. إذ المعروفُ عنه أنه رغم مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962- 1965)، وأعمال البابا السابق يوحنا بولس الثاني؛ فإنّ الكاردينال راتسينغر ظل على مدى أربعين عاماً بالغَ التشدُّد في مسائل الإيمان، والعقيدة الكاثوليكية، وبالغ التحفظ في العلاقات مع الأديان والثقافات الأخرى. وقد انصبَّ نقدُهُ في كتبه اللاهوتية البارزة على العلمانيين وعلى البروتستانت. وأزعجه أشدّ الإزعاج أنّ الأوروبيين أعرضوا عن الكنيسة، واعتنقوا الحداثة بطرائق همّشت الدين إلى حدٍ كبير. ولذلك فقد كان يرى -بخلاف البابا السابق الذي كان صديقاً حميماً له على أي حال- أنه من الضروري التركيز على أوروبا لاستعادتها إلى المسيحية الكاثوليكية.

بينما كان البابا السابق مهتماً بالمسرح العالمي. فقد صارع الشيوعية طويلاً باعتبار أصوله البولونية. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي وتشرذمت منظومته، صارع على استعادة مسيحيي شرق أوروبا، وتشاجر من أجل ذلك مع الكنيسة الروسية، كما اندفع من جديدٍ باتجاه أميركا اللاتينية وباتجاه الولايات المتحدة وكندا. وعلى مشارف حرب الكويت عام 1991، ومؤتمر مدريد رأى أنَّ للكنيسة دوراً تلعبُهُ في عملية السلام. فرغم أنه أقام علاقاتٍ دبلوماسيةً مع الكيان الصهيوني عام 1994 لأول مرة؛ ظلَّ مقتنعاً بضرورة إخراج القدس من تحت السيطرة اليهودية. كما أنه عطف عطفاً شديداً على لبنان خلال الاجتياحات الإسرائيلية، وزاره كما زار أقطاراً عربيةً عديدة في العقدين الأخيرين، وقبل وفاته عام 2004.

لا تستطيع الكنيسة الكاثوليكية، وهي الدينُ الثاني بعد الإسلام من حيث عدد المعتنقين في العالم، أن تبقى منغلقةً على نفسها، في الوقت الذي تتقدم فيه البروتستانتية بدون هوادة، وتستيقظ الأرثوذكسية مطالبةً بحقوق المشاركة. وبسبب الارتباك الناجم عن الموقف والموقع المتغير قضى البابا الجديد أكثر من عامين، ما زار خلالهما بلداً خارج القارة الأوروبية. وخلال ذينك العامين راجع البابا أطروحته السابقة، ويقال إنه كان مقتنعاً وما يزال بضرورات التغيير. ومحاضرته برغنسبورغ كان الهدف منها التصالح مع البروتستانت والعلمانيين بداخل أوروبا. بيد أنّ مشاكله داخل الكنيسة تبقى كبيرة أيضاً. فقد مضت عقودٌ دون أن يكون هناك تفكير جدي بالتجديد والانفتاح. وخلالها كان البابا يوحنا بولس الثاني منهمكاً في حملته العالمية على الشيوعية والحرب والإرهاب. أما داخل الكنيسة، وبفعل قبضة الكاردينال المحافظ راتسينغر؛ فقد تفاقمت المشكلات، وانفجر بعضُها في وجه القائمين على مجمع الإيمان. وذلك مثل قضايا الشذوذ الجنسي والإجهاض ومسائل حقوق الإنسان، وحق المرأة في أن تكون كاهنة، وأدوار العلمانيين والمدنيين في الكنيسة.

في تركيا ما زار البابا فقط متحف quot;آياصوفياquot; الذي كان كنيسةً عظمى هي كنيسةُ العاصمة البيزنطية قبل أن يفتح الأتراك القسطنطينية، ويحوّلوها إلى عاصمةٍ لهم. لقد زار البابا بعد أنقرة واسطنبول مدينة أفسس (اليوم: سلجوق) التي تُعتبر تأسيسيةً في الدين المسيحي. إذ بعد اضطهاد المسيحيين في القدس على إثر غياب السيد المسيح؛ انطلق بولس وغيره من أفسس وأنطاكية، ونجحوا نجاحاً باهراً في تحويل الدين المسيحي الجديد من فرقةٍ تتنازع مع الفِرق الأخرى، إلى دينٍ مجالُهُ العالم كلُّه. البابا قال في محاضرته برغنسبورغ إنّ بولس الرسول حلم بمقدونيا الأوروبية، والواقعُ أنّ المسيحية الشرقية هي التي أبقت على هذا الدين حياً حتى القرن التاسع الميلادي عندما بدأ الأوروبيون يُقبلون على اعتناق المسيحية، وبدأ بابا روما ينافس بطريرك القسطنطينية. والبابا عندما يزور أفسس والقسطنطينية سيصطدم بجفاء الأرثوذكس الذين يخشون على دينهم من الهجمات البروتستانتية والكاثوليكية. ولذلك فهو مُحتاجٌ أيضاً إلى حديثٍ صريحٍ معهم في نطاق ما يُعرف بالمسكونية المسيحية. والأمر نفسه بالنسبة للمسلمين الذين حاورهم البابا السابق كثيراً، وأحبَّهم وأحبُّوه.

أما العلاقة بالمسلمين فهي شديدة التعقيـد. فالمسلمون لا يملكون تصوراً واضحاً عما ينبـغي أن تكون عليه العلاقات مع الأديان الأخرى ومنـها الكاثوليك. لكنهم -وبخاصةٍ العرب من بينهم- يعرفون أنّ الصراع على فلسطين عالميٌّ، وأنّ البابا الكاثوليكي لا يريد أن يُخضع أحداً، كما لا يقبل أن يُخضِعَهُ الآخرون. ثم إنّ البابا الكاثوليكي يخشى مثل كثيرين غيره، من الأصولية الإسلامية؛ ولذلك هذا الحديث الكثير عن الإسلام المعتدل، والإسلام الآسيوي، وإسلام العقل.

ولهذا فهناك موضوعاتٌ عديدةٌ مشتركةٌ يمكن التحاوُرُ حولها، دونما عودةٍ للصفر من جديد كأنّ شيئاً لم يحصل خلال العقود اللاحقة على المجمع الفاتيكاني الثاني. وقد اعتذر البابا في تركيا بأنه ليس رجل سياسة، ولكنه يقول رأيه حتى في الشؤون السياسية أحياناً و ليس الدينية فقط! -وكان ذلك موقفاً لافتاً، ومن ضمن تفاصيله الموافقة على الدخول التركي إلى الاتحاد الأوروبي. والواقع أنّ حوالي عشرين مليون مسلم، من عربي وغير عربي، ينتشرون الآن في سائر أنحاء أوروبا، يريدون الأمن والسلام والاعتراف والحقوق. وفي الوطن العربي ملايين من ذوي الثقافة والكفاية يتحدثون عن العدل والكفاية والأخلاق. وكما هي تركيا محورٌ كبير وصاحبة أثمان في أوروبا والأطلسي؛ فإنّ العرب يخطبون وُدَّها أيضاً، ويعتبرون أن وجودها الفاعل في المنطقة يؤمّن الطمأنينة والتوازُن والنهوض. إذ ينبغي ألا ننسى أنّ تركيا العلمانية والبالغ عدد سكّانها السبعين مليوناً، هي من بين البلدان الإسلامية الأكثر تديناً والأكثر نمواً والأكثر ديمقراطية ولذلك فسيكون دخولُها للاتحاد الأوروبي، فاتحةً لعلاقةٍ أُخرى مع العرب والمسلمين.

لقد أخطأ البابا في حقّ نفسه وكنيسته. لكنه عاد ليحاول امتلاك المشروع من جديد، ونملكُ نحن المسلمين مصلحةً في المصالحة مع الكاثوليك الشباب، ومع سائر ديانات العالم وشعوبه. نحن محتاجون للبابا كما أنّ البابوية محتاجةٌ إلينا. بيد أنّ حاجتَنا أشدّ وأكبر. ولذلك فإنّ زيارةَ البابا لاسطنبول هي يومٌ له ما بعده. ولله في خَلْقه شؤون.