رنا الصباغ
لم يصدر بعد رد فعل رسمي أردني حيال تقرير بيكر-هاميلتون الثوري الذي حدّد خريطة طريق لحل أزمات الشرق الاوسط بما فيها كارثة العراق، على أمل تمكين الرئيس جورج بوش من استعادة بعض من مصداقية واشنطن المفقودة في العالم العربي المقبل على ثلاث حروب أهلية في العراق وفلسطين ولبنان.
رغم أهمية التقرير الذي يشكل رؤية جمهورية-ديموقراطية للوضع في منطقة فاقم أزماتها الثلاث صعود نجم محور يوصف بالتشدد بقيادة إيران وسورية على حساب صدقية الدول المتحالفة مع واشنطن، فإن الإشارات الصادرة عن مسؤولين أردنيين تشير إلى أنهم ليسوا في عجلة لإصدار أحكام رسمية أولية أو نهائية حول التقرير الذي صدر في 7 كانون الأول (ديسمبر). على أن أصحاب القرار يعبرون في الصالونات الخاصة عن سعادتهم بهذا التطور. إذ يرون في التقرير نسخة كربونية عن أكثر من 80 في المئة من أسس الاستراتيجية الخارجية ومفردات الخطاب الرسمي الأردني خلال السنوات الخمس الماضية.
وهو يعكس جهودا كبيرة بذلتها الديبلوماسية الاردنية، وحاربها المحافظون الجدد، للتأكيد على ترابط قضية الصراع العربي-الإسرائيلي وسائر قضايا المنطقة وللتحذير من تداعيات شن حرب على العراق من دون سيناريو واضح للتعامل مع تداعيات اليوم الثاني.
إذاً التقرير يعيد المشاكل الى أسبابها الصحيحة. يريد الأردن توظيفه لإنقاذ العراق وفلسطين والمنطقة بأسرها. فالتقرير يؤكد استحالة تهدئة الوضع في العراق وضمان شرق أوسط أكثر استقرارا دون تسوية القضية وخروج الإسرائيليين من الأراضي المحتلة كافة، بما فيها هضبة الجولان، وإشراك سورية في عملية السلام بدل عزلها. وبالتالي يحذّر التقرير من دفع سورية لتصبح قوة ممانعة ويدعو إلى تعطيل تحالفها مع إيران الذي يخدم أحلام الفرس أكثر من أهداف سورية. ويأمل الاردن في عودة سورية الى موقعها العربي لتقوية النظام الإقليمي المنهار.
ويدعو التقرير أيضا إلى تحقيق رؤية بوش حول إقامة دولة فلسطينية مستقلة، تلك التي اطلقها خلال قمة استضافها الملك عبدالله الثاني في مرفأ العقبة في منتصف 2004. وتحدّد خلاصة بيكر-هاميلتون أواخر العام الحالي لإطلاق جهد ديبلوماسي جديد. وتأمل دول المنطقة أن تحمل وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، المقرر وصولها مطلع العام المقبل، خطة عمل فاعلة لتحريك المسار الفلسطيني بدلا من خطاب الاستكانة المغلف بالديبلوماسية.
و كل ذلك يدخل في باب الايجابيات بالنسبة لسياسات المملكة التي لم تحسم بعد أمر هويتها الوطنية بانتظار الحل النهائي للقضية، وبالتالي مساعدة نصف عدد سكانها من ذوي الأصول الفلسطينية على تحديد بوصلة انتماءاتهم الأيديولوجية. فاستمرار الجمود على جبهة الصراع العربي الاسرائيلي يعني ايضا تضاؤل الأمل بقيام دولة فلسطينية ويفرغ مضمون معاهدة السلام الاردنية-الاسرائيلية (1994) التي تقف على قدم خشبية بانتظار الحل الشامل. فطمر حلم الدولة لفلسطينية المستقلة يرجح خيار اليمين الاسرائيلي بحل القضية الفلسطينية على حساب الاردن، او قد يجر المملكة للعب دور أمني-سياسي في الضفة الغربية قد يفاقم من حدة التوتر الداخلي. والخياران معاً يهددان عمق الامن الوطني والقومي ومستقبل النظام الهاشمي.
عراقيا، رفض التقرير خيار تقسيم بلاد ما بين النهرين، عاكسا موقف الاردن الذي يرى في تلك النهاية بداية لتقسيم طائفي على مستوى المنطقة، كما قد تؤجج نيران فتنة سنية-شيعية تمتد لخارج الاقليم لتصل الى باكستان واندونيسيا. ولم يوص التقرير بانسحاب فوري أو بجدول زمني للانسحاب (مع انه ينصح بسحب معظم القوات المقاتلة بحلول العام 2008).
في المقابل وضعت لجنة بيكر-هاميلتون الحكومة العراقية أمام مسؤولياتها الأمنية والاقتصادية والسياسية لتحسين الأداء العام وربط ذلك باستمرار حصولها على الدعم الاميركي. وأصرت أيضا على ضرورة مواصلة مقاومة إرهاب القاعدة مع التأكيد على ضرورة اعادة النظر في دمج السنة لتحقيق المصالحة الوطنية بعد إقصائهم منذ سقوط نظام صدام حسين البعثي عام 2003.
وفي كل ذلك تعبير عن مواقف الاردن تجاه جارته الشرقية، وعمقة الاستراتيجي العربي قبل ان تسقط بغداد. والاشكالية الأكبر للاردن جاءت من خلال توصية بضرورة إشراك إيران وسورية في ايجاد تسوية للملف العراقي. هذه التوصية تعمق الهواجس الرسمية من ان يتحول العراق الى laquo;ورقة في يد ايرانraquo; تستعملها للتدخل في كل ملفات المنطقة، وفي معركتها لانتزاع اعتراف واشنطن بدورها كقوة اقليمية رئيسية الى جانب اسرائيل. ففي ذلك مساس بأمن الآخرين وانقلاب على توازنات استراتيجية وسياسية اكثر انسجاما مع تركيبة المنطقة. و ثمّة ترابطات إيرانية بالأزمات العربية الثلاث. وستحاول ايران ان تنتزع موقع الصدارة في الإقليم، معتمدة على قدرتها في تعطيل مسارات المنطقة، أمن المنطقة وأمن اسرائيل. مثل هذا التحول بات مصدر قلق وخوف لدى حلفاء أميركا التقليديين من العرب. صحيح أن دول ما يسمى بـraquo;الاعتدال العربيraquo; حصلت على وعود من بوش خلال زيارته الاخيرة للادرن نهاية الشهر الماضي بأنه ليس في وارد فتح حوار مع طهران ودمشق، إلا اذا قبلت الأولى بالشروط الدولية للتعاطي مع ملف تخصيب اليورانيوم، والتزمت الثانية بتنفيذ القرار الاممي 1701 بما فيه ترسيم الحدود مع لبنان وعدم تعطيل تشكيل المحكمة الدولية المفترض أن تنظر في ملف اغتيال رفيق الحريري.
إلا أن هذه الوعود قد لا تصمد أمام خيارات تمليها ضرورات الواقع قد تفرض نفسها على بوش المأزوم لحماية مصالح اميركا قبل مصالح حلفائه، سيما وأنه على اعتاب الاعلان عن استراتيجية حول العراق مطلع العام المقبل، بعد الانتهاء من مشاورات مكثفة. وقد تحمل هذه الاستراتيجية مفاجآت تقتضي ضرورة إدخال ايران على خط انقاذ اميركا من مستنقع العراق. لذا، تشير المعلومات التي رشحت من الاجتماعات الرسمية المغلقة إلى أن عمان تعمل بصمت وبقوة على اعادة دراسة التعامل مع العراق ومع سياسة أميركية متغيرة في ضوء تقرير بيكر-هاميلتون. لكن تزداد معاناة اجتراح الحلول بسبب تخبط السياسات الاميركية وغياب الرؤية الكلية وتنامي احتمالات اشتباك الديموقراطيين والجمهوريين في مناكفات سياسية بسبب عدم قبول بوش بتوصيات التقرير والإقرار بهزيمته في العراق. وهنا ستدفع المنطقة المنهارة أصلا الثمن غاليا، وعلى الجبهات المشتعلة كافة.
أما سيناريو الكارثة الأسواء للأردن فيتمثل في قرار مفاجيء يؤخذ تحت وطأة الضغوط الداخلية للإنسحاب من العراق خلال عام، من دون اكتمال عناصر بناء الدولة وبسط الأمن والاستقرار (يدل آخر استطلاع رأي مستقل على ان 74 في المئة من الاميركيين يريدون انسحاب قواتهم من العراق بحلول آذار (مارس) 2008 وان 71 في المئة مع إقامة حوار مع سورية وايران، كما أوصى التقرير). و أي انسحاب من دون تحضير شامل سيعني تقسيم العراق إلى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية، ومزيدا من الهجرة البشرية تجاه الاردن الذي يؤوي 700،000 لاجئ عراقي على الاقل منذ العام 2003. كذلك سيفاقم خطر الإرهاب وتنامي عدم الاستقرار في المنطقة.
و السيناريو الأكثر توقعا في الأردن يكمن في ثلاثة خيارات يدرسها البيت الابيض: رفع عديد القوات الأميركية في العراق بإرسال ما بين 15 و30 الف جندي اضافي في الأمد القصير لتهدئة بغداد التي تحولت الى مسرح مصغّر لحرب أهلية بين السنة والشيعة، مع خطة للابتعاد عن النزاع الداخلي، والتركيز على ملاحقة الإرهابيين من فلول القاعدة والنظام السابق، والتحرك لدعم الشيعة والتخلي عن الجهد لخطب ود المقاتلين السنة.
وهنا بيت القصيد ومكمن الخطر بالنسبة للاردن. ففي حساب الدول الكبيرة لا قيمة للقيم. إذ تقاس الامور بميزان الأرباح والخسائر والمصالح. إذا كانت الدول الكبرى على استعداد لإجراء تعديلات في مواقفها وسياساتها وتوجهاتها فما الذي يمنع الأردن، الدولة الصغيرة، أن تتكيف مع الظروف الاقليمية الدولية؟
سيتطلب ذلك قيام الاردن بإبداء المزيد من الانفتاح على ايران وعلى الرموز السياسية الشيعية الأكثر اعتدالا في العراق، بمن فيهم عبد العزيز الحكيم والمرجعية الدينية علي السيستاني.
لكن ثمّة صعوبات: ففي خلفية المشهد انطباعات غير إيجابية تركتها حملة اعتقالات في صفوف نشطاء التشيّع الديني في الأردن على أيدي علماء وأسياد شيعة لمحاصرة خطر التشيع السياسي والديني والتوجه صوب ايران. وقبل ذلك، استفزت تحذيرات الملك عبد الله خلال وجوده في واشنطن من تنامي هلال شيعي بدءا من إيران مرورا بالعراق ولبنان وسورية وانتهاء بفلسطين، أوساط الأغلبية الشيعية التي لطالما تشيعت لآل البيت، أجداد الهاشميين حكام الأردن. صحيح أن الملك اكد مرارا أنه لم يكن يقصد التشيّع الديني، وانما كان يقصد خطر المد السياسي الفارسي، لكن الضرّر وقع. والاردن لا يزال يراهن على إمكانية استمالة الشيعة العرب تبعاً لصلتهم بآل البيت. وسيعمل على تمتين علاقاته مع مختلف ألوان الطيف الشيعي و اظهار المزيد من الدعم لحكومة نوري المالكي، مع أن أغلب دول المنطقة باتت على قناعة بفشله في امساك زمام الامور في العراق، وبامكانية استبداله قريبا من خلال حركة داخلية. وقد تلجأ المملكة إلى خيار تخفيض عتبة دَينها المستحق على العراق والمقدر بمليار و200 مليون دولار منذ ثمانينات القرن الماضي. وهناك اتصالات فوق وتحت الطاولة مع شيعة العراق، ومع كبار ساستهم، ومع إيران من خلال الأبواب الخلفية، حسبما يرشح من حلقات صنع القرار. وبانتظار إعلان بوش للاستراتيجيه الجديدة في العراق، يعيد الأردن حساباته تحضيرا لخيارات قد يكون مرغما كغيره من العرب والأوروبيين على اتخاذها مطلع العام بفعل تراجع هيبة التحالف الاميركي، وتصاعد المواجهة بعدما اتضحت معالم الصراع الاقليمي-الدولي خلال الشهور الماضية. وكسائر ما يُسمى بـ laquo;دول الاعتدال العربيraquo; يجد الأردن نفسه في مواجهة المحور الإيراني- السوري الذي يتحرك ضمن استراتيجية متينة تديرها طهران، مسنودة بماكنة اعلامية متفوقة كتلفزيون laquo;العالمraquo; من إيران وraquo;المنارraquo; في لبنان، وraquo;الجزيرةraquo; في قطر. وقد تتفاقم الأمور، ويدفع الوقت التحالف الاميركي لحسم قرار المواجهة العسكرية خلال الشهور القادمة. لكن الاردن كغيره من دول الاعتدال مقتنع بترابط الجبهات، وباتساع قدرات الخصم لتشمل قوى غير نظامية متناقضة ايديولوجيا كالقاعدة وتنظيمات سنية اخرى جنّدت بشكل مباشر وغير مباشر لإفشال اميركا في بناء شرق اوسط جديد، بدءا من أفغانستان مرورا بالعراق وانتهاء في فلسطين.
وبالتزامن مع ذلك، تسعى عمان لتعزيز التنسيق الديبلوماسي والامني على اسس استراتيجية ضمن laquo;الرباعية العربيةraquo; التي تشكلت خلال الشهور الماضية: الاردن والسعودية ومصر والامارات العربية المتحدة، وصولا إلى موقف موحد قادر على التحاور مع ايران وأميركا واسرائيل، في سبيل التذكير بمصالح الطرفين لجهة إقليم اكثر استقرارا. فلا مصلحة لهذه الدول بمعاداة ايران، لكنها ليست مجبرة ايضا على دفع ثمن فاتورة المواجهة او الاتفاق بين طهران وواشنطن.
التعليقات