السبت: 2006.02.18

غازي العريضي

سأل غسان شربل - رئيس تحرير صحيفة ''الحياة''- الرئيس الشــــــهيد رفيــــق الحريـــــري قبل فترة وجيــــــزة من اسـتشــهاده: ''ماذا تتوقع في المرحلة المقبلة''؟ فأجاب: إنها مرحلة تتطلب من الجميع الحكمة والصبر والتبصّرmiddot; مرحلة صعبةmiddot; دعني أختصر لك موضوع التنازلات- وهو كان متهماً بالتنازل دائماً لسوريا- في تشبيه لا أعرف إنْ كان دقيقاًmiddot; أنا أمام طائرة مدنية مخطوفةmiddot; ولا تستطيع تحرير الركاب بالقوةmiddot; فماذا تفعل؟ جوابي: إن الأولوية لسلامة الركاب وإنقاذهمmiddot; مجرد إنقاذ بيروت ولبنان يشكل عقاباً للخاطفين''middot;
بمعرفتي بالرئيس الشهيد ومواكبتي للكثير من التفاصيل في مواقفه وخلفياتها وبمتابعتي الدقيقة في السنوات الأخيرة لمعاناته في الحكم، والصدمات التي عاشها، والضغوطات والتهديدات المباشرة وغير المباشرة التي تعرض لها، والتي كانت تستهدف موقعه ودوره ومشروعه وحلمه، وهو دور سخّر لخدمة لبنان وسوريا في الداخل والخارج، ومشروع وحلم كانا للبنان واللبنانيين إنماء وازدهاراً واستقراراً واستقلالاً وحرية ولسوريا أمناً واستقراراً وثباتاً وقوة، ونموذجاً للعلاقات معها، أستطيع أن أقول اليوم إنه بالجواب الذي أعطاه، اختصر رفيق الحريري ظروفه وواقعه ودوره ومهمته في الفترة الأخيرة وفسر استشهاده قبل أن يستشهدmiddot; نعم كان لبنان قد أصبح مثل طائرة مخطوفةmiddot; ومصير اللبنانيين فيها مهددmiddot; وهو سواء أكان في الحكم أم خارجه كان الأقدر على الإنقاذmiddot; كان محط الأنظارmiddot; كان محور وأساس الثقةmiddot; كان السند الذي يتطلع إليه اللبنانيون يتساءلون عند كل أزمة ومحطة وتهديد وخطر يواجهونه: أين الحريري؟ ماذا سيفعل؟ بمن سيتصل؟ كيف سيتحرك؟ وفي أي اتجاه؟ وكانوا يشعرون فعلياً بأنه إن تحرك نجحmiddot; وكان ينجح وكانت تزداد ثقتهم بهmiddot;
نعم رفيق الحريري كان مُحرِراًmiddot; كان محرراً بكل ما للكلمة من معنى، وفي ''الطائف'' كان المساهم الأول في تحرير لبنان، واللبنانيين من الحرب والخوف على المستقبل والمصيرmiddot; وبعد الطائف كان المساهم الأول في التحرير من الأزمات والصعاب لاستعادة مؤسسات الدولة وإعادة بنائها ولاستعادة الثقة بين اللبنانيينmiddot; ومع استلام رئاسة الحكومة كان المحرر لهم من آثار الحرب: فأطلق مشروع إعادة البناء والإعمار في كل المناطق: بنى تحتية- هاتف - مياه - كهرباء- جسور- طرقات- جامعات- مدارس- رفع أنقاض- عودة مهجرين- ومحاولة محو آثار الحرب كلهاmiddot; وكان المساهم في التحرير من التخلف والضائقة المالية ففتح الأبواب أمام الآلاف من اللبنانيين ليتعلموا! وكان المساهم الأكبر في التحرير من الاحتلال الإسرائيلي بدعمه المقاومة وتسخيره كل إمكانياته من أجلها وبالتالي كان المقاوم لإسرائيل والساعي للتحرير من احتلالها وإرهابها على خطين: خط المقاومة الداخلية لما أرادته إسرائيل من ضعف للبنان وتراجع لدوره، فأعطى البلد قوة ومنعة، وأطلق له دوراً على مستوى المنطقة والعالمmiddot; وخط التحرير من الاحتلال بالمقاومة الميدانية، فكان المساهم الأكبر في تحقيق تفاهم نيسان وبالتالي في الوصول إلى تحرير القسم الأكبر من الأرض اللبنانيةmiddot; كذلك كان يساهم في أن يكون المحرر الأول للعلاقات اللبنانية- السورية من كل انحراف أو شوائب أو استغلال لمصالح سياسية فئوية أو شخصية مالية أو سياسيةmiddot;
كان من الطبيعي أن يستهدف هذا المقاوم المحرر من إسرائيلmiddot; فهو في نشأته قومي عربيmiddot; وبقي ملتزماً بقضيته وقناعاته حتى آخر محطة من حياتهmiddot; وهو صاحب دور كبير وعلاقات واسعة في العالم قارعت اللوبيات الصهيونية في كثير من مراكز القرار في العواصم الكبرىmiddot; وهو كان رئيساً للحكومة داعماً بالقول والممارسة للمقاومة في وجه إسرائيلmiddot;
لقد أصبح لبنان في المرحلة الأخيرة التي سبقت اغتياله تماماً مثل الطائرة المخطوفةmiddot; القرار فيها مصادرmiddot; وثمة من يريد التوجه بها وبهم إلى مجهولmiddot; والخيارات أمامهم محدودةmiddot; قلق وخوف على مصيرmiddot; فكانت الأنظار مجدداً نحوهmiddot; من ينقذ اللبنانيين؟ والأولوية كانت عنده هنا دائماًmiddot; ولذلك افتدى لبنان وبيروت واللبنانيين فقال مسبقاً ''إن إنقاذ بيروت ولبنان واللبنانيين يشكل عقاباً للخاطفين''!
رفيق الحريري المتسامح القوي العنيد والكريم في عطائه حتى في الاستشهاد وحمى لبنان، أنقذ بيروت ولبنان واللبنانيين أكثر من مرة وآخر مرة عندما كانوا في قمة الخطرmiddot;
قتلوهmiddot; واستمر قادراً فاعلاً منقذاً حامياًmiddot; في يوم تشييعه بعد الاغتيال انتفض كل لبنانmiddot; وكانت الوحدة الوطنية والرد على الذين أرادوا التفرقة ليكرسوا سيادتهم وقهرهم وظلمهمmiddot; كان الرد الشعبي في أعلى مستوياته، والأصوات ترتفع في كل الجهات في بيروت، تحيي ذلك المنقذ المحرر على وقع أصوات أجراس الكنائس ومآذن المساجدmiddot; دخل القتلة في صراع جديد مع رفيق الحريري بعد أن خطفوا حياته وقتلوهmiddot; استمروا كذلك حتى الذكرى السنوية لاستشهادهmiddot; قتلوا بعده رجالاً كباراًmiddot; إعلاميين لامعينmiddot; سياسيين كباراًmiddot; هددوا آخرينmiddot; حاولوا اغتيال آخرينmiddot; ثم حاولوا مجدداً خطف وتهديد بيروت وقلبها في الخامس من فبراير الجاري باستغلال مظاهرة كانت تستنكر الإساءة إلى الرسول الأكرم في منطقة الأشرفيةmiddot;
كانت الأشرفية وبيروت ولبنان أكبر منهمmiddot; سقطت الفتنةmiddot; سقطت المؤامرة، فأرهبوا الناس بالشائعات والخوف، واستنفروا قوى وطاقات ومؤسسات للالتفاف على الذكرى السنوية لاستشهاده، ومنع الناس من المشاركة فيهاmiddot; راهنوا على التخويف وعلى عامل الطقس الذي لن يساعدmiddot; حاولوا العرقلة على الطرقات في بعض المناطقmiddot; أطلق بعضهم مواقف متشنجة موتورة ضد من التف حول الحريري ودعا إلى المشاركة في يوم ذكراهmiddot; لكن إرادته وقوته وإيمانه وثقة الناس به جعلته الأقوى هذه المرة أيضاً، فكان المنقذ لبيروت ولبنان واللبنانيين واستبق عملية الخطف الجديدةmiddot;
نعم في المرة الأولى اختطفوا الطائرة فافتدى اللبنانيينmiddot; هذه المرة منعهم من الخطفmiddot; لم ينجحواmiddot; وكان هو المنقذ والمحرر الذي عاقب الخاطفين والقتلة، فانتفض اللبنانيون إلى ساحته، يحيون ذكراه، يؤدون الوفاء والتحية له وكان يوم الرابع عشر من فبراير موازياً وأكثر ليوم الرابع عشر من مارس الماضي نظراً لما حمله من دلالات بعد عام من التحديات والاغتيالاتmiddot; بقي الشعب اللبناني صامداًmiddot; بقيت القوى المؤمنة بحقيقة رفيق الحريري والباحثين عنها والساعين إلى كشفها ومحاسبة ومعاقبة القتلة والمجرمين أقوىmiddot; بل ظهرت أقوى مما كانت عليهmiddot; وأصبح عود الناس أصلبmiddot; وفاء الناس أكبر من الوهم الذي حاول ويحاول زرعه القتلة وحلفاؤهمmiddot; صلابة الناس أقوىmiddot; اعتاد الناس على محاولة خطفهمmiddot; لكنهم اعتادوا على رفيق الحريري يعطي الثقة والقوة حيث هوmiddot; كان ولا يزال الملاك على الأرض وفي الجو، حاملاً همومهمmiddot; ساعياً من أجلهمmiddot; حامياً لهمmiddot; 14 شباط 2006 يوم مشهود في تاريخ لبنانmiddot; الساعة 12,55 سكتت حناجر المليون لبناني ونيف المجتمعين في قلب ساحة الحرية يهتفون لرفيق الحريريmiddot; حملوا الأعلام اللبنانيةmiddot; لوَّحوا بها استذكاراً للحظة استشهاده ورفاقهmiddot; ثم استمرت كلمات قادتهم على وقع أصوات أجراس الكنائس ومآذن المساجد أيضاًmiddot; انتصاراً للوحدة الوطنية اللبنانية، وتأكيداً لوفائهم لمن حررهم وأنقذهم، وللبنان أولاًmiddot;